هناك حكايات لا تروى إلا من آخر فصولها. هذا ينطبق على حكاية الشبكة الخلوية الثالثة التي كادت الأحداث المتصلة بها أن تطيح نهائياً ما بقي من ظلال للدولة في لبنان... في هذه الحكاية، انتصر «الأبطال على الحرامية»، تماماً كما في أفلام «الأكشن» الهوليوودية
الحكاية الحقيقية للشبكة الخلوية الثالثة لن ترضي الجميع حتماً، خصوصاً أن رحلة التنقيب عنها تفضح أكاذيب كثيرة، وأعمال تزوير موصوف، وممارسات فيها أنواع متعددة من القرصنة والسطو على الملك العام والتحايل على القوانين والأنظمة، وتجاوز حدود السلطة، والخلط بين العام والخاص... فضلاً عن الغش والخداع والتضليل الإعلامي واستحضار الانقسام المذهبي لتبرير كل ذلك، بل والدفاع عنه.
من هنا تبدأ الحكاية. من الطابق الثاني في مبنى وزارة الاتصالات في منطقة العدلية، حيث جرى تركيب (وتخزين) معدّات وتجهيزات تقنية ومنصّة ذكية تسمح بإنشاء وتشغيل شبكة خلوية متكاملة تستوعب 50 ألف مشترك، وتغطّي مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية (والسورية). لم يكن أحد من المسؤولين في وزارة الاتصالات (والحكومة عموماً) يعلم تماماً ماذا يحصل في هذا الطابق وعلى هذه الشبكة. كان الأمر بمثابة سرّ عميق! الشبهات كانت كثيرة وكبيرة، فالشبكة مشغّلة فعلياً، ويمكن أياً كان أن يلتقط إشارتها على هاتفه الخلوي، والتقارير الفنية كانت تشير إلى وجود علامات جدّية على استخدامها لأغراض مختلفة، إلا أن الاستفسارات الموجّهة إلى رئيس هيئة «أوجيرو» ومديرها العام عبد المنعم يوسف (الذي يشغل في الوقت نفسه مركزاً إدارياً ثالثاً على رأس مديرية الاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات التي تتولى مهمات تكليف هيئة «أوجيرو» الرقابة على أعمالها!)، كانت لا تلقى الأجوبة الواضحة والمحددة. فغالباً ما كان ينفي تشغيل الشبكة شفهياً، ويمتنع عن تقديم أي إيضاحات خطّية كافية وشافية، مدّعياً «استقلالية» مزعومة للهيئة، ومنتحلاً صفة المالك للشبكة عبر شركة وهمية لا أثر قانونياً لها تدعى «شركة أوجيرو تيليكوم»، متجاوزاً بذلك قانون إنشاء هيئة «أوجيرو» الذي يحدد نطاقها بتسلّم منشآت وتجهيزات التلغراف حصراً بعد إنهاء امتياز «راديو أوريان» في عام 1972.
ووسط الجدل، برزت اتهامات لفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بأنه يستخدم هذه الشبكة الخلوية لأغراض تخصّه. وقد يكون استخدمها لإنشاء شبكة داخلية مقفلة أو لتنفيذ مهمات محددة. إلا أن المصادر الرسمية في وزارة الاتصالات ترفض التعليق على هذه المعلومات، وترفض تبنّيها ما لم تكن هناك أدلّة دامغة وثابتة، نظراً إلى خطورة مثل هذه الاتهامات. ولكن كل المعنيين في الوزارة نفسها يبتسمون عندما تُطرح عليهم أسئلة من هذا النوع. يقولون باستطراد، تاركين للسائل مهمّة التحليل والاستقراء: الشبكة موجودة فعلياً، وهي مشغّلة خارج الأطر الشرعية، وتحكمها إجراءات شديدة السرّية والتكتّم. والسؤال برز عندما أصرّ فرع المعلومات على منع المسؤولين الرسميين عن هذه الشبكة من الكشف عليها، كذلك فإن المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي رفض تنفيذ أوامر رئيسه المباشر، وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود، ما دفع الأخير إلى الاعتكاف، كذلك رفض تنفيذ أوامر القائد الأعلى للقوات المسلّحة ــــ رئيس الجمهورية ميشال سليمان. هذا التصرف جعل الشكوك تصاغ على شكل سؤال: لماذا كل ذلك إذا لم يكن هناك ما يجب التستّر عليه؟ لا يعقل أن يوضع البلد أمام حالة هستيرية لمجرد أن عبد المنعم يوسف يرفض تنفيذ تعليمات رئيسه ــــ وزير الاتصالات، ويصرّ على تمليك الشبكة إلى هيئة «أوجيرو» التي هي في الواقع الحقيقي مجرد مقاول في الباطن يعمل لمصلحة وزارة الاتصالات نفسها، فالمقاول لا يمتلك شيئاً، وليس له أي قدر من الحرّية والاستقلالية.
بقيت بوابات هذا الطابق وغرفه الداخلية مقفلة طيلة الأشهر الأربعة الماضية، يحرسها جنود من الجيش اللبناني، هؤلاء الذين أوعزت إليهم قيادتهم تنفيذ مهمّة ليست من اختصاصهم أصلاً. فالجيش وجد نفسه مضطراً إلى الحلول محل السلطة السياسية العاجزة، و«إنهاء حال التمرّد التي قام بها فرع المعلومات»، وتفادي صدام دموي كاد أن يقع فعلياً، إلا أن ذلك لم يحصل إلا بعد 7 أيام من احتلال فرع المعلومات للمبنى الحكومي، اعتباراً من الثالثة من بعد ظهر الجمعة في 20 أيار الماضي حتى مساء الجمعة في 27 أيار نفسه. هذه الفترة كانت كافية لإخفاء ومسح الكثير من المعلومات والأدلة على «الجريمة»، وهناك معلومات تتداول أن عناصر فرع المعلومات يدخلون إلى المبنى ويخرجون محمّلين بحقائب كثيرة، تقول مصادر مطّلعة إنها تحوي تجهيزات فُكّكت بإشراف خبراء وفنيين جنّدهم الفرع، وهو ما أكدته معاينة أوّلية أجرتها منذ أيام قليلة اللجنة الفنية المؤلفة في وزارة الاتصالات للكشف على الشبكة ومحاولة معرفة الأهداف التي كان تُحقّق عبرها، علماً بأن وزارة الاتصالات طلبت من شركة «هواوي» المصنّعة لهذه الشبكة تكليف خبراء منها لإعداد تقرير فنّي دقيق يسهم في توفير الأجوبة المطلوبة.
في الشهر الماضي، بعد أن أمسك بملفاته جيّداً ودرسها من النواحي الدستورية والقانونية والإدارية، اتخذ وزير الاتصالات نقولا صحناوي قراره بتحرير الطابق «الأسود» من مبنى وزارته في منطقة العدلية، خطّط لذلك ملياً، وأعدّ للعملية بإتقان شديد: طلب من الجيش، بواسطة وزير الدفاع، إخلاء المبنى بسبب انتفاء الحاجة، وطلب من وزارة الداخلية إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي عبر تكليف جهاز أمن السفارات والمباني الحكومية بتولّي مهمات حراسة المبنى كسائر مباني الوزارات والإدارات الحكومية الأخرى، وطلب من أجهزة الوزارة اتخاذ كل التدابير اللازمة لاستعادة سلطة الدولة التي تجسّدها الوزارة في «كل ما خُصّ بها».
حدّد الساعة الصفر عند التاسعة من قبل ظهر الجمعة في الثالث والعشرين من أيلول الجاري. فتح باب وزارته بمواكبة قوى الأمن الداخلي ــــ جهاز أمن السفارات والمباني الحكومية ــــ وأفسح في المجال أمام مديريات الوزارة للقيام بوظائفها ومهماتها، بما في ذلك اللجنة الفنية التي عجزت عن تنفيذ مهمّتها طيلة الأشهر الماضية بسبب هذا الوضع الشاذ.
أنجز المهمّة التي أناطها به الدستور في المادة 66 منه التي تقول: «إدارة مصالح الدولة وتطبيق الأنظمة والقوانين المتعلّقة بالأمور العائدة إلى إدارته وما خص به». وأعلن من داخل المبنى أن الدولة استرجعت بعضاً من هيبتها التي هدرها قراصنة متمرّدون يريدون المحافظة على إقطاعيات بنوها في غفلة عن الناس عبر التزوير والبلطجة.
جاءت ردود فعل القراصنة باهتة وعاجزة. فلا رئيس مجلس إدارة شركة «ميس» ومديرها العام غازي يوسف نجح في استثارة الغرائز، إذ كيف يمكن أن ينجح في ذلك من هناك طعون جدّية في نيابته، لكونه يشغل وظيفة في شركة مملوكة من الدولة، وهو لا يأبه بذلك ويصرّ على مخالفة القانون الذي يمنعه من الجمع بين النيابة والوظيفة المذكورة؟ ولا النائب مروان حمادة نجح في ذلك لكونه هو الذي تخلى عن مسؤولياته الدستورية عندما تولّى حقيبة وزارة الاتصالات، وشارك في تجيير الشبكة الخلوية الثالثة لجهة لا تمتلكها خلافاً للقانون... فيما عبد المنعم يوسف فشل في توريط المدّعي العام القاضي سعيد ميرزا في قضية اختلقها عبر تقديم إخبار غير مستند إلى أي مسوّغ قانوني ثابت، ما عدا قرارات لمجلس الوزراء مشكوك في صحتها. فالقاضي ميرزا لم يجد طريقة لتبرير وضع اليد على قضية «الطابق الأسود»، إذ كيف يمكن أن يفعل ذلك الآن في مواجهة وزارة الاتصالات التي تعود ملكية المبنى والتجهيزات إليها، فيما لم يحرّك ساكناً عندما تمرّد موظّفون في «أوجيرو» وقوى الأمن الداخلي وارتكبوا جرائم يعاقب عليها القانون باحتلال مبنى حكومي وتهديد وزير الاتصالات السابق وموظّفين عامّين بالسلاح؟! رفض القاضي ميرزا التورّط في قضية خاسرة، على عكس ما حاول تلفزيون أخبار المستقبل إشاعته لفترة قصيرة عن وضع يد المدّعي العام على «قضية دخول وزير الاتصالات إلى وزارته».
نجح صحناوي في مهمته، لكنّ القراصنة من دون متابعة. وقد يأتي اليوم الذي يكون في مقدور القضاء اللبناني سوقهم إلى المحاكمة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك