الحياة
جاء في صحيفة "الحياة": عاد موسم التعليم وفتحت الجامعات اللبنانية أبوابها أمام الطلاب الجدد المنتقلين من المرحلة الثانوية أو الباحثين عن مجالات جديدة ضمن فئة الدراسات العليا. ومنذ الأيام الأولى للتسجيل، لاحظ المسؤولون عن مؤسسات التعليم العالي زيادة طلبات الانتساب إلى الاختصاصات المستحدثة أو تلك التي تمثّل اتجاهاً جديداً في الدراسة، وذلك على حساب التسجيل في الاختصاصات التي طالما اعتبرت «رفيعة» في لبنان كالطبّ والهندسة والحقوق. وعلى رغم أنّ الأرقام النهائية لم تصدر بعد حول أعداد الطلاب المنتسبين إلى كلّ اختصاص، تشير اللوائح الأولية إلى زيادة نسبة الطلاب الراغبين في متابعة دراستهم الجامعية في مجالات لم يعتدها المجتمع اللبنانيّ ومنها مثلاً «تكنولوجيا التعليم» (Instructional Technology) الذي يقوم على تدريس أصول التفاعل بين العناصر البشرية والأجهزة والأدوات التعليمية لحلّ مشاكل التعليم. وكذلك اختصاص «التجارة الإلكترونية والحوسبة» (Business Computing) الذي يعيد تشكل مشهد التعاملات الاقتصادية بين الأفراد والشركات.
هذان نموذجان عن تخصصات في مجالات جديدة تخلق فرص عمل متجددة للشباب اللبنانيّ ترعاها حتّى اليوم الجامعات الخاصة المرخص لها من قبل وزارة التربية والتعليم العالي، فيما لا تزال الاختصاصات في الجامعة اللبنانية الرسمية محدودة. والجولات التي يقوم بها الطلاب بين الجامعات الخاصة تسمح لهم باكتشاف ميولهم نحو خيارات مهنية جديدة لم يتعرّفوا إليها بعد. فالطالبة نور، التي أنهت دارستها في مجال العلاج الفيزيائي، اختارت مثلاً دراسة علم الأقدام (Podology) في قسم الدراسات العليا وهي تفخر بقرارها باعتبار أنّ مثل هذا الاختصاص يفتقده لبنان وهي ستتميّز من خلال عملها.
وفي عالم التغذية، برز اتجاه ملحوظ للطلاب نحو «تكنولوجيا الصناعات الغذائية» (Food Technology)، ما يشير إلى الآفاق الجديدة التي يتنبه إليها الشباب اللبنانيون بدل حصر أنفسهم في مجالات يصعب أن يتميّزوا من خلالها. وتكثر الفرص التعليمية التي يمكن للطلاب أن يلتحقوا بها، خصوصاً بعدما أعلنت جامعات خاصة عدّة وضع اللمسات النهائية على اختصاصات جديدة في مجال الشؤون المائية والنفط والطاقة وغيرها. وتحظى اختصاصات حديثة نسبياً في لبنان، لكنها صارت عريقة في الجامعات الأميركية والفرنسية، بإقبال كثيف ومنها العلاقات العامة، وإدارة شؤون الموّظفين، وإدارة المواصلات وصولاً إلى اقتصاديات السياحة الدولية.
حول هذه الظاهرة يقول بيار مهنا، مدير مكتب توظيف خاص، أنّ هناك اختصاصات ذات مستقبل واعد من ناحية التوظيف في لبنان، وتحديداً في ما يتعلق بالإدارة والبيئة والإلكترونيات. ويؤكد مهنا أنّ الطلبات التي تسجّل من قبل الشركات الموّظِفة تشير إلى الحاجة الماسة لموّظفين ذوي انفتاح على مجالات جديدة، ولا يكون تعليمهم قائماً على التلقين فقط إنما على التجارب ومحاكاة العمل اليوميّ من خلال الدراسة الجامعية. ويحضّ مهنا الشباب اللبنانيين على اختيار مهن مميّزة تخفّف عنهم عبء البطالة التي تتفشى بين صفوفهم وتدفعهم إلى الهجرة، ومنها كلّ ما يرتبط بعالم الشبكة العنكبوتية أكان تصميم المواقع وبرمجتها أو إدارة المعاملات التجارية عبر الإنترنت. والاتجاهات التعليمية في الجامعات الخاصة في لبنان تسلك اليوم هذا المسار المتجدّد مسترشدة بتجارب عالمية، ما يساعد في إمداد سوق العمل بقدرات بشرية ومهارات مهنية تفتح آفاقاً جديدة في الاقتصاد اللبنانيّ بالنسبة إلى فئة الشباب.
وإذا كانت الاختصاصات الجامعية الجديدة يمكن أن تثير حفيظة بعض الأساتذة باعتبار أنّ المؤسسات التعليمية تضطر أحياناً إلى اللجوء إلى أساتذة أجانب بانتظار تخريج جيل «محلي» أو تقلق بعض التربويين خوفاً من فشل المناهج والبرامج المستحدثة في إعداد جيل من الجامعيين القادرين على إثبات أنفسهم في سوق العمل، فإنّ مشروع تطوير الاختصاصات مستمر وقد فرض نفسه هذا العام على الإدارات كما الطلاب. وتلفت نور عارف، المسؤولة عن تسجيل الطلاب الجدد في جامعة لبنانية خاصة، إلى أنّ هناك واقعاً لا بدّ من مواجهته وهو أنّ هناك فائضاً من الطلاب المتخرجين في مجالات الطبّ والمحاماة والهندسة، ما يفاقم مشكلة البطالة. وتعطي عارف مثالاً على ذلك أنّ هناك طبيباً واحداً في لبنان لكلّ 350 مواطناً فيما المعدّل العالميّ هو طبيب لكلّ 1500 مواطن، وهذا ما يُعتبر مؤشراً إلى كثافة عدد الأطباء فيما يحتاج سوق العمل اللبنانيّ إلى اختصاصات أخرى تحفّز الطاقات الشابة التي تميل إلى مهن تحاكي العصر والتطوّرات التكنولوجية والفكرية.
الخيارات التخصصية المتنوّعة في مرحلة التعليم الجامعيّ باتت كلّها مفتوحة أمام الطلاب في لبنان، لكن ذلك لا يلغي حاجتهم إلى التوجيه الصحيح من قبل المسؤولين عن الإدارات، خصوصاً أنّهم لا يعرفون تفاصيل الكثير من المجالات التي يخوضونها. والجامعات الخاصة هي اليوم أمام مسؤولية تعريف المجتمع اللبنانيّ أيضاً بالبرامج التربوية الجديدة التي ستؤثر على الحياة المهنية للكثير من الشباب. والأهم في هذه القضية هي أن تتوافر فرص التطوّر العلميّ والمهنيّ لكلّ الطلاب دون استثناء، وخصوصاً بالنسبة إلى أولئك غير القادرين على الدخول إلى المؤسسات الخاصة بسبب الكلفة المالية، والذين يبحثون عن تحصيلهم الدراسيّ ضمن الجامعة الوطنية. فتطوير البرامج التعليمية وتعديلها لتناسب الاتجاهات العلمية الحديثة سيعطيان الفرصة لأكثر من 70 ألف طالب بأن يكونوا أكثر فعالية وإنتاجاً عند انطلاقهم في مسيرتهم المهنية.