الأخبار
يتناقض موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع موقف حزب الله في مسألة تسديد لبنان حصته في تمويل المحكمة الدولية، إلى حدّ الخلاف في المسألة الأكثر عبئاً على الائتلاف الحكومي. لا يشبه التمويل أزمة الكهرباء ولا بعدها التعيينات. ولا يشبه أزمة الخلاف المتوقع على مشروع قانون موازنة 2012، أو أي ملف آخر يتصل بتجاذبهما النفوذ داخل الحكومة الحالية، ولا كذلك بعرض العضلات الذي يتبادلانه في سياق تشبّث كل من ميقاتي ووزراء الغالبية الحكومية بصلاحياته.
أكثر من أي من تلك الملفات، يختلط الداخل مع الخارج في التمويل، ويُحمَّل الطرفان الوزر مرتين: مرة عندما يختلفان على هذا الموضوع ويتصدّع تحالفهما الحكومي، ومرة عندما يجبههما الخارج بإجراءات محتملة إذا أخلّ لبنان بتعاونه مع المحكمة وتلكأ عن تسديد حصته في نفقاتها. عندئذ يتحمّلان معاً تداعيات هذه الإجراءات.
من أجل ذلك يتفادى رئيس الحكومة وحزب الله إظهار تناقضهما من التمويل في العلن، رغم معرفة كل منهما موقف الآخر وتيقنه من أن من الصعوبة بمكان حمله على التخلي عن تشدّده: لا ميقاتي قادر على نكث تعهّدات قوية قطعها للمجتمع الدولي باستمرار التعاون مع المحكمة وتمويلها كشرط رئيسي لهذا التعاون، ولا حزب الله مستعد للموافقة على الإنفاق على محكمة تريد محاكمته باغتيال الرئيس رفيق الحريري. يقترب الطرفان يوماً بعد آخر من أن يصبحا جدّياً وجهاً لوجه في مشكلة، لا تتقبّل التساهل ولا المداراة، ولا التحايل على النص والاقتناعات.
وعلى وفرة الشكوك التي تحوط بها قوى 14 آذار تمسّك ميقاتي بالتمويل، وإشاعتها انطباعات سلبية بأن موقفه لا يعدو تبادلاً للأدوار مع حزب الله وحلفائه، إلا أن طبيعة العلاقة التي جمعت رئيس الحكومة بالغالبية منذ التكليف حتى الآن، تُبرز معطيات مغايرة تشير إلى الكثير الذي يجمع بينهما، والكثير أيضاً الذي يباعد:
1 ـ يستند رئيس الحكومة في إصراره على التمويل إلى ضغطين يواجههما: الشارع السنّي، الذي لا يسعه تجاهل مطالبته بالمضي في المحكمة حتى خاتمتها، واستمرار التعاون معها لكشف قتلة الحريري وتحقيق العدالة، والمجتمع الدولي، الذي يحتفظ بمرارة ضمنية في علاقته مع لبنان من جرّاء إخلاله وفق ما يقول ممثلوه، سفراء دول كبرى، بتنفيذ أكثر من قرار لمجلس الأمن. لا القرار 1559، ولا القرار 1701 على النحو المطلوب، ويثير الغبار حالياً حيال القرار 1757.
ويصرّ ميقاتي على تأكيد التزام حكومته التعاون مع المحكمة، سواء انسجاماً مع بيانها الوزاري أو مع التعهّدات التي كان قد قطعها من منبر الأمم المتحدة، وفي لقاءاته الرسمية في نيويورك.
2 ـ ليس الخلاف على التمويل أول مشكلة يواجهها حزب الله مع رئيس الحكومة. بعض مَن واكب علاقتهما منذ التكليف، يقول إن الحزب كان يتوقع تعثّر ميقاتي في أول طريق تكليفه على أثر يوم الغضب في طرابلس، فإذا به يقفز عنه بسهولة ويستوعب سلبياته قبل أن يُفاجأ الحزب بأن الرئيس المكلف ينهكه حيث لم يكن يتوقع، وهو تأليف الحكومة الذي استمر 145 يوماً بين أفرقاء يجمعهم تحالف.
لم يكن في إمكان الحكومة إبصار النور إلا وفق إرادة ميقاتي. مرة بالتمسّك بصلاحياته الدستورية، فتعلَن من قصر بعبدا لا من مكان آخر، ومرة ثانية بإرغام الغالبية على مراعاة حساسية التمثيل والتوازن الطرابلسي في الحكومة، فتمثلت بأربعة وزراء سنّة خلافاً للأعراف، ومرة ثالثة بسيطرته على أكثر من الثلث 1 في مجلس الوزراء على حساب قوى 8 آذار بحصوله وحلفاءه على 12 وزيراً، ومرة رابعة بتقييد حصة الرئيس ميشال عون وقلب توزيع الحقائب على تكتله. بذلك استنفد التكليف والتفاوض الشاق الذي رافقه وقتاً لم يحتج إليه تماماً.
3 ـ تدرّج ميقاتي، منذ تكليفه رئاسة الحكومة، في موقفه من المحكمة قبل الخوض في تمويلها. في مرحلة التكليف لم يُفصح مرة عن رأيه من التعاون معها، ولم يكشف فحوى اتفاقه مع حزب الله على هذا الموضوع. بعد التأليف راح يتحدّث عن احترام القرارات الدولية من دون إقران ذلك بالمحكمة. ثم طوّر موقفه ليؤكد التزام حكومته التعاون مع المحكمة. ثم ربط بين تمويلها ومصلحة لبنان وتجنيبه أي ضرر يترتب على الإخلال بذلك أمام المجتمع الدولي، ليخلص أخيراً من منبر نيويورك إلى إعلانه صراحة أن لبنان سيموّل حصته في نفقاتها.
على مرّ هذا الوقت، لم يتردّد في التأكيد لزواره السفراء التمسّك بالعدالة والمحكمة. كل ذلك رغم معرفة ميقاتي رفض حزب الله القاطع الاعتراف بشرعية المحكمة والتعاون معها.
4 ـ لزم رئيس الحكومة وحزب الله، حتى الأمس القريب، الصمت حيال الموقف النهائي من التمويل. سجّل كل منهما للملأ موقفه من دون أن يُشعر الآخر باكراً بأنه يلزمه بهذا الموقف أو ذاك. كان الاتفاق الذي عقده الرئيس المكلف آنذاك مع الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله وضع الموقف من المحكمة جانباً، والمضي في تأليف الحكومة، والتفاهم على التعاون معاً داخلها. اتفقا أيضاً على أن يجلسا ويناقشا الموضوع برمته، التعاون مع المحكمة وتمويلها في أوانه بعيداً من الإعلام والضجيج توصّلاً إلى التسوية الملائمة.
إلى الآن، وقد بات استحقاق التمويل على الأبواب، لم يجلسا، علناً على الأقل، ولم يُرسيا ما أقرّاه في مرحلة التكليف، لكنّ كلاً منهما صار أكثر تمسّكاً بوجهة نظره: ميقاتي متأثر بشارعه السنّي وبعلاقة حكومته مع المجتمع الدولي، ونصر الله متعلق باقتناعه الذي يجعله يصف المحكمة بأنها أميركية ـــــ إسرائيلية فيرفضها ويرفض تمويلها.
5 ـ مع أن أياً من رئيس الحكومة وحزب الله لا يريد دفع الآخر إلى أزمة حكومية حادة، إلا أن ميقاتي قدّم قبل أيام اختباراً مهماً عندما لوّح بالاستقالة إذا صوّت لبنان في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الأميركي ـــــ الأوروبي الذي يدين سوريا، وهو ما كان يرمي إليه الحزب. وأبلغ هذا الموقف إلى قيادته. فانتهى الأمر بلبنان، إلى امتناعه عن التصويت، مخرجاً مزدوجاً: تفادي مشكلة مع سوريا، وفي الوقت نفسه تجنّب انهيار الحكومة وقد أظهر رئيسها جدّية الاستقالة.
أرضى إذ ذاك توازن القوى الداخلي والخارجي في آن واحد، فأفضى الامتناع إلى تفهّم مجلس الأمن وجهة نظر لبنان، آخذاً بحساسية علاقته سوريا وتأثيرها في استقراره.