منذ إطلالته الأولى وزيراً جديداً للداخلية والبلديات، كان لا بد من انتظار إضافات مروان شربل. وبدا صعباً قمع النفس عن تخيّل انتخابات نيابية أو بلدية يشرف عليها شربل، فكان لا بدّ من ترقّب «مشروع مروان شربل الانتخابي». وشربل لا يُخيِّب توقّعاً، مثبتاً أن سرعته في إعداد القانون الانتخابي تضاهي سرعته في اجتذاب الأضواء.
ابتسم للكاميرات في مستهل مؤتمره الصحافي أمس في وزارة الداخلية، معلناً: «حققت حلمي الأول». بدا هنا أقرب إلى الطفل منه إلى الضابط. وسرعان ما بدأ يعرض قدراته الاستثنائية: «اطّلعت على كل المسوّدات ومشاريع القوانين الانتخابية التي أعدّت سابقاً» (أكثر من مئة ألف صفحة). وفرادته: «القانون الانتخابي الذي أعرضه لا يشبه أي قانون آخر، لا في الشكل ولا المضمون». مع لمسته الخاصة: «أضفت على المشروع تفاصيل اقتبستها من خلال تجربتي في العمليات الانتخابية» (كان رئيس غرفة العمليات التي أنشئت في وزارة الداخلية في انتخابات 2009).
يصل شربل بعد المقدمة البطولية المتوقعة دائماً إلى «الزبدة». يعلن أن القانون الذي أعدّه يعتمد النسبية نظاماً انتخابياً. يبتسم للكاميرات، مراقباً باهتمام السعادة تغمر وجوه الصحافيين أمامه. يتشجّع: «لا خلاص للمجتمع اللبناني إلا باعتمادها». يقصد خلاص المجتمع اللبناني من سياسييه طبعاً: ستطير النسبية كما غطّت، في لحظة، إذا سمع السياسيون وزير الداخلية. يحدّد الوزير الأسباب التي جعلته من «جماعة النسبية»: هذا نظام يحرّر الأقليات من تأثير المحادل السياسية والمذهبية والمناطقية والمالية من جهة، ويحدّ من نسبة الأصوات الضائعة أو المهدورة، ما يشجّع مشاركة أكبر من الناخبين من جهة أخرى».
النسبية إذاً أولاً. أثار حديث الوزير ثانياً عن «النسبية مع لوائح مفتوحة مكتملة» لغطاً عند المستمعين. يذكر هنا أن هناك شكلين أساسيين للنظام النسبي: نسبية مع لوائح مقفلة، ونسبية مع لوائح مفتوحة؛ في «المقفلة» يعدّ رئيس الحزب أو قادة الائتلاف السياسي لائحة بجميع المرشحين، ولا يحق للناخب لاحقاً أن يفضّل مرشحاً على آخر، فيختار اللائحة التي تلائم خياره السياسي، ويترك لزعماء هذه اللائحة تسمية المرشحين الفائزين والمرشحين الخاسرين. يسهّل هذا الشكل من النسبية الفرز وتوزيع المقاعد، لكنه يعزز سطوة الزعماء على حساب إرادة الناخبين.
ليس هذا الشكل من النسبية اختار شربل. اختار الوزير النسبية مع لوائح مفتوحة مكتملة. يعني ذلك أن على اللائحة أن تضم عشرين مرشحاً في الدائرة التي تمثّل بعشرين نائباً. ولا يحق للناخب تطعيم لائحة بمرشحين من لائحة أخرى، فاللائحة التي يختارها المقترع لا يمكن إلا أن تكون مكتملة، لكنها مفتوحة: يحق للناخب أن يختار مرشحه المفضّل الأول ومرشحه المفضّل الثاني ضمن اللائحة التي اختارها. هي مكتملة بعدد النواب إذاً، مفتوحة لإعادة ترتيب مقاعدها. يسمح ذلك لوزارة الداخلية بأن تحصي عدد الأصوات التي حازها كل مرشح ضمن اللائحة الواحدة، لتزكّي (الوزارة لا زعيم الحزب) مرشحاً على آخر ضمن اللائحة نفسها، وفقاً لإرادة الناخبين.
تسهيلاً لفهم «النسبية مع لوائح مفتوحة مكتملة»، يمكن أخذ دائرة المتن الشمالي نموذجاً. يمثّل هذه الدائرة ثمانية نواب، يتوزعون مذهبياً كالآتي: 4 موارنة، 2 أرثوذكس، 1 أرمن أرثوذكس و1 كاثوليك. إذا حصلت اللائحة البرتقالية على 60% من الأصوات مقابل حصول اللائحة الخضراء على 40% من الأصوات، ستذهب 5 مقاعد إلى «البرتقالية» و3 إلى «الخضراء». هنا، بدل اختيار ميشال عون خمسة من المرشحين الثمانية وأمين الجميّل ثلاثة كما يحصل في «النسبية المقفلة»، ستحصي وزارة الداخلية الأصوات التفضيلية التي نالها المرشحون، ليتبيّن لها كيف ستتوزع المقاعد المارونية والأرثوذكسية، ولمن سيذهب المقعد الكاثوليكي والأرمني. فإذا تقدم المرشح الكاثويكي على اللائحة الخضراء على المرشح الكاثوليكي على اللائحة البرتقالية بعدد الأصوات التفضيلية، يذهب المقعد الكاثوليكي إلى اللائحة الخضراء. وإذا تقدم مرشحون موارنة من اللائحة الخضراء بعدد الأصوات التفضيلية على مرشحين موارنة من اللائحة البرتقالية، يذهب مقعدان مارونيان إلى اللائحة الخضراء.
انتهى الملل، يستعيد معالي الوزير المبادرة: «أنا جسدت في مواد المشروع كل مطالب المواطنين في القانون الانتخابي». مطالب المواطنين؟ حاول الوزير السابق زياد بارود ملامسة مطالب بعض هؤلاء. اقترح بارود في قانونه خفض سن الاقتراع إلى 18، قانون شربل أبقاه 21. بارود اقترح خفض سن الترشح من 25 إلى 22، شربل أبقاه 25. بارود اقترح إتاحة الاقتراع في مكان السكن، شربل رفض ذلك. مطالب المواطنين أيضاً وأيضاً: يحدد بارود في قانونه 15 دائرة انتخابية، أما شربل فلا يحدد عدد الدوائر، فلتكن 10 أو 11 أو 12 أو 13 أو 14. أليس السياسيون مواطنين أيضاً؟ يحق لهم تحديد هذه النقطة بأنفسهم. ينتظر الوزير إذاً اتفاق السياسيين على تقاسم آمن لجبنهم النيابيّ، وإعلامه بحجم الدوائر الذي يشتهونه، مع العلم بأن ترك شربل تحديد حجم الدوائر للقوى السياسية، يحول دون مجابهته بجملة ردود فعل سلبية ممن سيسارعون إلى احتساب أرباحهم وخسائرهم فيجنّ جنونهم. ويسمح هذا الأمر للنائب وليد جنبلاط بأن يفاوض جدياً ليرسم الدائرة بالحجم الذي يلائم نفوذه الشعبي ويضمن له الاحتفاظ بأكبر عدد من مقاعده النيابية الحالية.
قدّم شربل أيضاً آلية لاقتراع المغتربين، ورؤيته لهيئة إدارة الانتخابات، وسقف الإنفاق الانتخابي، والكوتا النسائية وغيرها من النقاط، قبل إثارته كالعادة موجة من التساؤلات حين لمّح إلى حسنات «قانون انتخابي أُقرّ في عهد الأتراك عام 1924». قبله حلم بارود وحلم وحلم، ليستيقظ على قانون 1960. اليوم يحلم شربل، مدركاً أن أحلامه يمكن أن تعيده ليس إلى 1960 فحسب، بل إلى الـ1924، في ظل سعي الأتراك الحثيث للعودة إلى المنطقة.
ولم ينس شربل التعبير عن أمله بأن يتشجّع الشباب على خوض المعارك الانتخابية والوصول إلى المجلس النيابي. عبارة كانت عادية لو لم يستدرك قائلاً: «ولا سيما الشباب الجامعي».
في ظل تأكيد بعض المتابعين أن تمكّن مروان شربل من الفوز في نهاية النقاش بإقرار مجلسي الوزراء والنواب للنظام النسبي وتشريع الاقتراع (لا التصويت كما كان يردد شربل أمس) بواسطة أوراق رسمية تعدّها مسبقاً وزارة الداخلية وتتضمن أسماء اللوائح وأعضاءها مع صورهم الشمسية، سيمثّل إنجازاً يسمح لشربل بدخول التاريخ من بابه الطبيعيّ، بدل الأبواب الغريبة التي يواصل قرعها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك