لكان محظوراً شديد الخطورة فعلاً لو ان 14 آذار الحركة والخيار والاتجاه منيت بانتكاسة أكبر بكثير من 14 آذار القوى والأحزاب والتيارات. فهذا الحشد المستعاد امس في ساحة الشهداء، يعيد الاعتبار الى معايير تتجاوز حتى الشعار الذي رسمته القوى السياسية الحاملة اسم 14 آذار، اذ ان معايير الناس غالباً ما تبقى هي الأهم، وهي الاخطر في آن واحد.
وما ينطبق على جمهور 14 آذار في الذكرى السادسة لأكبر انتفاضة شعبية شهدها لبنان في حقبتي "الاستقلالين" الأول والثاني. ينسحب ايضاً على جمهور 8 آذار لو كان الأمر متصلاً بمبارزة الأحجام وعرض القوى والعضلات الشعبية، اذ ان السذج وحدهم يظنون ان اياً من المعسكرين قد تعوزه في لحظة القدرة على التحشيد، والمتهورين فقط يسقطون في خطأ تحقير "جمهور" او تسخيف اقتناعاته. المسألة امس لم تكن بقياس الحجم كعملية حسابية مقدارَ ما كانت في "المعاينة" السنوية للحظة استثنائية تماماً واجهتها "حركة 14 آذار" بفعل ما تعرضت له من ضربات واخطاء واستهدافات، ان على أيدي رموزها او على ايدي خصومها، وفحص قابلية هذه الحركة للنهوض من جديد والمضي الى اليوم التالي. والأفق الأبعد من يوم الفحص.
بذلك يكون هذا الجمهور قد دلّل على أهم ما تركه في "الساحة" أمس، وهو "الاندماج" الحقيقي الثابت في خيار ثلاثي ملازم لحركة 14 آذار اي الخط السيادي المطلق وخيار الدولة وخيار الديموقراطية المدنية.
سواء شاء من شاء أم كره من كره، حركة 14 آذار، ودائما كحركة، اكتسبت أهميتها القصوى، الأبعد حتى من التوجه السيادي الذي فجرها في وجه الوصاية السورية، من كونها تحتضن النسبة الساحقة من المستقلين غير "النظاميين"، ومن كونها حركة اندماج بين الطوائف على قاعدة "الخيار" وليس على قاعدة "التأطير" و"الكودرة". ما كان لهذه الحركة ان تعيد أمس، بعد ست سنوات من ولادتها، وأن تثبت قابليتها الثابتة على تخطي كل ما تمنى به من صدمات واعادة تبديد المعطيات السياسية المصنوعة بتقلبات السياسة او المواقع او الظروف، لولا هذا الاندماج الاجتماعي والوطني في تركيبتها من جهة ولولا الخلل المستمر الذي ينتج كل سنة ظاهرة "آذارية"، وهو ابتعاد "سراب" الدولة بفعل الصراع الداخلي المفتوح. واقع الحال ان المكونات المبدئية لهذا الجمهور هي المكونات البديهية لقيام الدولة ذات القرار المستقل والسيد والحر، وكذلك لحماية الديموقراطية اللبنانية التعددية، وهي مبادئ في حقيقتها لا تخضع لتلوين او فرز بين المعسكرين لو قيض للبنان الاندماج الكامل في الولاءات والمسلّمات التي تصنع دولة. بذلك ايضا، واستنادا الى الحركة المبدئية وحدها، لا تكون دولة حقيقية لولا تلك الحوافز التي تدفع في كل مرة هذا الجمهور الى الساحات.
ولكن ذلك لا يقلل شأن الصراع الذي يَفرض على جمهور 14 آذار ان ينظر ايضاً الى جمهور آخر هو شريكه وخصمه في آن واحد، يوازي نظرته الى الدولة بمسلّمات غير قابلة للتراجع في مسألة السلاح التي دوّى ضجيجها هذه السنة، جمهور "حزب الله" تحديداً بكل ما بات يمتلكه هذا الحزب من تأثير متمدد داخلياً يضع "المقاومة" في مرتبة اقوى وأعلى من الدولة نفسها. ولعلها هنا الخطورة الفائقة في معايير "الجماهير" قبل ان تكون في معايير القوى السياسية. ومع ذلك سترتكب قوى 8 آذار خطأ المكابرة العبثية ان هي لم تنظر بحدقتين واسعتين الى مغزى الحشد الذي جمعته ساحة الشهداء أمس.
والفارق كبير جداً بين كسب سياسي أملته ظروف مجزية من بينها أخطاء القوى التي كانت في موقع الشراكة والخصومة معاً، وبين هذا الحشد وما حمله الى ساحة بدت أمس كأنها تصرخ بإلحاح في اتجاه الحلول الجذرية الحاسمة من دون اي هوادة عبر استعادة هادرة لـ"ثورة الارز".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك