كل طائفة تنتخب نوابها بنفسها: مناصفة ميثاقية فعلية
صدى البلد

بعد مِئات المقالات والدراسات لأكثر من مُفكر ومركز بحوث منذ عشرينيات القرن الماضي، ها هو اللّقاء الأرثوذكسي يجدد بدوره التأكيد على طبيعة مجتمعنا، كما هو على حقيقته: لبنان وطن "مُركب" من جانح مسلم وآخر مسيحي، لبنان بلد مُتعدد الهويات، أي الطوائف، حيث لكل منها شخصية وجدانية أنتجتها تفاعلات سياسية- إيمانية- تاريخية. وعليه، جاء طرح اللّقاء بضرورة أن تنتخب كل طائفة نوابها بنفسها، عبر نظام نسبي.

ما دفعني للتعليق على هذا الطرح، ليس إيماني به كونه يصبّ في خانة العدالة والمساواة بين كل الجماعات اللبنانية فحسب، وإنّما بهدف الردّ على نظريات نَعَتته بالرجعية والانعزالية وخدمة المصالح الشخصية، وأنّه يضرب الميثاق الوطني.

عودة تاريخية سريعة توضيحية

قبل العام 1975، كانت للمسيحيين مقاعد في البرلمان أكثر من المسلمين، ناهيك عن أنّ الزعامات المسيحية كانت تأتي بنواب مسلمين تحت عباءتها في أكثر من دائرة، فاعتبر المسلمون هذا الأمر تعدّياً على حقوقهم وكيانهم المعنوي، وكان أحد أسباب الأحداث التي اندلعت في 13 نيسان 1975.
أمّا اليوم، فقد انقلبت الآية، وما من داعٍ لحرب أهلية جديدة حتى نتعلم أنّ أي مسّ بالمصالح الوجودية للطوائف يُشعل ناراً دموية. فقانون الانتخاب بعد اتفاق الطائف، أعطى مناصفةً 64 مقعداً نيابياً للمسيحيين و64 للمسلمين. ولكن، هل تنتخب كل طائفة ممثليها كما يجب؟

تفنيد النظريات

-ما دامت مقاعد البرلمان تتوزع بشكل نسبي على الطوائف، فلِمَ لا نُكمل هذا المشهد عبر إعطاء كل طائفة الحق في إنجاح ممثليها بمفردها مهما بلغ عدد ناخبيها؟
في صورة كهذه، لن نرى بتاتاً مجموعة تشعر بالخوف على مصيرها مهما تغيّر الواقع الديموغرافي والتحالفات السياسية.
وعلى سبيل المثال الافتراضي، لو انخفض عدد الشيعة في جبيل بعد عشر سنوات إلى نصف عددهم الحالي، فسوف يحصلون على من يمثلهم عن هذا المقعد ولن تتحكم به أصوات الأكثرية المسيحية هناك.

-عندما تُمنح كل جماعة ما يُشعرها بالأمان ويُمثلها أفضل تمثيل، أيُسمى ذلك بالتقوقع؟
فليتقدم أصحاب هذه النظريات بطرح بديل لا يكون على حساب أية جماعة! صحيح أنّ التعايش يوجب على "الجميع" أن يتنازلوا، ولكن ليس لدرجة الذمية والتماهي بالآخر وفقدان الحقوق والخصوصية وإلغاء الهوية المجتمعية.

-وأعجب ما ورد في هذه النظريات، هو القول إنّ هذا الطرح يمنع انتخاب المرشحين الصالحين من الطوائف الأخرى! ولمطلقيها أقول: كل الطوائف تضمّ أشخاصا نظيفي الكف، فلتختر كل طائفة الصالحين من أبنائها! فالتمثيل الطوائفي الصحيح مختلف عن حسن اختيار المرشحين!

-عندما يُقدَّم هذا الطرح في قالب النسبية، أتكون غايته المصلحة الشخصية؟ العكس هو الصحيح، فبالنسبية يتمثل الجميع.

-هل تساوي كل الجماعات اللبنانية بقانون لا غلبة فيه لإحداها على الأخرى، من شأنه أن يضرب ميثاق العيش المشترك؟ أبدا، فهو يعزز الميثاق الاسلامي- المسيحي عبر تحقيق المناصفة الفعلية الحقيقية بعيداً من لعبة الأكثرية العددية.

-أمّا رأيي في نواة الفكرة الانتخابية القائلة بأن ينتخب كل جانح نواب الجانح الآخر أملاً بأن يعيشا أجواء بعضهما، فهو التالي: إنّ تحقيق المؤالفة بين المسلمين والمسيحيين لن يأتي عبر إمساك الأذن بالمقلوب في تبادل التمثيل السياسي، وإنّما عبر "تقبّل الآخر كما هو" وعبر انتظام المسيحيين والمسلمين معاً ضمن أحزاب جديدة تحترم وتضمن لكل منهما حرية التعبير عن ماضيه ووجدانه وثقافته وعاداته وتقاليده وإرثه التاريخي وخلفياته الروحية والتربوية. حينها، تتقارب وتتفاعل القواعد الطوائفية الشعبية دون اللعب في تعبير كل طائفة عن ذاتها بالطريقة التي يراها أبناؤها مناسبة لهم.

الخاتمة

في النهاية، وبانتظار التفاصيل التقنية لطرح اللّقاء الأرثوذكسي، لا يسعني إلا التأكيد على أنه خطوة جبارة نحو تطوير النظام، من وُحدوّي مركزي غير عادل، إلى آخر اتحادي لا مركزي، يُشبه التركيبة اللبنانية التعددية على حقيقتها، دون إغفال أمرين: ضرورة إبعاد لبنان عن سياسة المحاور عبر الحياد الايجابي، وأهمية إنشاء طائفة للعلمانيين تحمل الرقم 19 وتتيح لهم المشاركة العادلة في النظام الجديد.