"لو عرفت لما فعلت"

اصبحت اطلالات امين عام "حزب الله" الاخيرة تجتر التكرار، وتتمحور حول ثوابت لا يحيد عنها: الدفاع عن منظومة الممانعة والصمود وارتكاباتها المجرمة بحق شعوبها، ثم الدفاع عن حكومة الانقلاب الميقاتية وتصويرها على انها مثال يحتذى به بالسيادة والعمل والانجازات.

خطاباته الاخيرة لا تنسى ابدا الازدراء بالمحكمة الخاصة بلبنان, كما المجتمع الدولي وقراراته، وكل ذلك الكلام على وقع الصراخ الذي يعلن عن حروب اتية وانتصارات من شأنها تغيير خارطة الكون وموازين قوتها لصالح ولاة الفقيه وحلفائهم.

ما استوقفني في خطابه الاخير هو كلامه عن قدرة جديدة يمتلكها لبنان وتتمثل في "قلب الطاولة" وتحويل "التهديد الى فرصة حقيقية" في حال اعتدي عليه بعد ان كان نجح، حسب الحزب، في فرض نوع من "توازن رعب" مع اسرائيل مع العلم ان التوازن هذا لم يمنع الاخيرة للاسف من خوض حرب تموز 2006.

رحت افتكر واسال نفسي في ظل الانحطاط الاخلاقي والثقافي والسياسي والاجتماعي الداخلي معطوفا على حراك اقليمي خطر، عن اية قدرات تراه يتحدث نصرالله، وهو نفسه مختبئ من براثن المخابرات الاسرائيلية منذ سنين؟ واية قوة خفية يمتلكها الامين العام تمكنه من قلب الطاولة -و نتمنى ان يمتلك لبنان، كل لبنان تلك القوة - ونحن ترانا لا ننتهي من تفكيك شبكات تجسس زرعتها اسرائيل في داخل بيئة "حزب الله" نفسه حتى نعود ونوقف مجموعة شباب جندهم الموساد ونكتشف هشاشة "تماسكنا" الداخلي.

ثم ان قدرة قلب الطاولة يجب ان يكون لها بالحد الادنى مقومات اما عسكرية ضخمة ومتطورة، كالدرع الصاروخي الذي طورته اسرائيل بنجاح (و قد يحمي ديمونا وحيفا وما بعد حيفا من رعد واخواتها)، اما اقتصادية كالنفط السعودي الذي يعتمد عليه اقتصاد العالم او الغاز القطري.

اما لبنان لا يملك لا هذه ولا تلك، انما ترسانة صواريخ ايرانية تعتمد على ما يبدو اساسا على الداخل الاسرائيلي في اية مواجهة مقبلة، باعتباره لا يحتمل عملا حربيا يعرض "رفاهيته" للخطر، وبالتالي يستطيع الضغط على حكومته من اجل وقف الاعمال الحربية ضد لبنان، ما يترجم في اعلام المقاومة تلقائيا "انتصارا الهيا".

اضف الى ما سبق، شرط وجود حلفاء يستطيعون بالحد الادنى المساعدة الفعلية على "قلب الطاولة"، والامر غير متوفر لا في الحليف السوري الذي يخوض نظامه حربا ضد شعبه، ولا في الحليف الايراني الذي يواجه اصلا صعوبات في مساندة بشار الاسد فضلا عن خضوعه لضغوط قاسية وعقوبات جديدة قد تشل من امكانية تحركاته.

فما قصة "قلب الطاولة على المعتدي" اذا؟ وكل الظروف لا تساعد عليها؟ وما سر تزامن اعلان نصرالله عن امكانية لبنان "قلب الطاولة" مع كلام وسائل الاعلام الاجنبية عن عملية حربية ضد ايران؟

ما يريد ان يقوله نصر الله هو بغاية البساطة: ان قامت اسرائيل او الولايات المتحدة بمغامرة عسكرية ضد ايران فـ"حزب الله" سيكون جاهزا لفتح جبهة الجنوب. ولكن من شائن اعلان كهذا ان يثير غضب الطائفة الشيعية والمقربين من الحزب، لانهم لا يرون المنطق في ربط مصيرهم بصراع ايران مع العالم اجمع حول ملفها النووي؟ او بكلام ادق هم، اي الشيعة، لا يستطيعون قبول الثمن الذي سيدفعونه من الارواح والارزاق حتما ان فتحت جبهة الجنوب من اجل ايران، الا اذا كان الوعد هو بالتحديد "قلب الطاولة"، او زوال "الكيان الغاصب" او "المغامرة الاخيرة لهذا الكيان". ولمزيد من الاقناع يؤكد الامين العام ان الامر ممكن لان اميركا "تلملم ذيل هزائمها من المنطقة" فيما التطورات المحلية والاقليمية والدولية "تصب لمصلحة شعوب المنطقة ومحور الممانعة والمقاومة".

الصورة الجميلة التي يرسمها نصرالله على وقع نشوة الجمهور وهزيانه التي تعيدنا الى صورة "نورنبرغرية" قاتمة من عام 1937، لن تمر علينا، فقصة "قلب الطاولة" هي مرادف للانتحار الجماعي، او هي ترجمة للتبعية المطلقة للولي الفقيه، او هي مغامرة لا غد لها. المهم عندما ينفض الغبار عن تلك المغامرة المجنونة- ان حصلت- والتي تريد ربط لبنان بولاية الفقيه، ان تحاسب الضحية المضلل بها، من سياتي ليعلن من فوق الجثث والانقاض والدمار "لو عرفت لما فعلت".