صطدم طلب السيد حسن نصر الله، إحالة ملف شهود الزور على القضاء العدلي بسياسة العدالة الانتقائية التي ينتهجها أزلام القوى الغربية الداعمة لإسرائيل. فالعدالة واجب "المجتمع الدولي" عندما تتناسب مع مصالحه، أما في قضية الضباط الأربعة، فالعكس صحيح.
"دائرة الاستئناف في المحكمة الخاصة بلبنان حسمت في تشرين الأول الفائت بأن الشهادات التي حصلت عليها لجنة التحقيق الدولية المستقلة ليست من اختصاص المحكمة القضائي. وإذا كان الإدلاء بشهادات كاذبة يعدّ جريمة بحسب القانون اللبناني، يمكن مقاضاة شهود الزور في المحاكم اللبنانية"، قال أمس المكتب الإعلامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان عبر موقع "تويتر"، مؤكداً بذلك عدم تجاوز إحالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي لقرار مجلس الأمن 1757/2007 الذي يتضمّن نظام المحكمة الأساسي.
وكان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قد طلب أول من أمس من رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، إحالة ملفّ شهود الزور في التحقيقات القضائية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري على المجلس العدلي، وذلك إنصافاً للضباط الأربعة: المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج والمدير العام السابق للمخابرات في الجيش العميد ريمون عازار والقائد السابق للحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، الذين سجنوا من غير وجه حقّ لنحو أربع سنوات. وكان قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية قد أمر السلطات اللبنانية بفكّ احتجازهم في 29 نيسان 2009 بعد أن تبين له أن المعلومات التي سجنوا على أساسها "لا تتمتع بالصدقية الكافية."
القانون اللبناني يجرّم الذين يثبت تقدمهم بشهادات كاذبة إلى السلطات القضائية؛ إذ جاء في المادة 408 أن "مَن شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري فجزم بالباطل أو أنكر الحق أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات". ولا يتطلب ذلك أن يكون الشاهد قد حلف اليمين، فإذا كان المجرم قد استمع من دون أن يحلف اليمين لا تلغى العقوبة، بل تخفض إلى النصف. وتخفض العقوبة كذلك إلى النصف إذا كان الشاهد "معرّضاً حتماً، لو قال الحقيقة، أو يعرّض أحد أقربائه لخطر جسيم" (المادة 411). أما قانون أصول المحاكمات الجزائية، فجاء فيه أنه «إذا تبيّن للقاضي أن الشاهد يدلي بإفادة كاذبة فيكلّف قوى الأمن بوضعه في نظارة المخفر ويضع تقريراً يرفعه إلى النائب العام في هذا الشأن ويشير فيه إلى وضع الشاهد في النظارة. للنائب العام أن يلاحق هذا الشاهد بجرم شهادة الزور (المادة 408) وفقاً للأصول" (المادة 188).
بهدف إثبات أن بعض الشهادات التي قُدمت إلى لجنة التحقيق الدولية وإلى المحقق العدلي اللبناني عام 2005 هي شهادات كاذبة يطالب اللواء الركن جميل السيد منذ عام 2010 المحكمة بتسليمه مستندات التحقيق التي تتضمن تلك الشهادات، وذلك ليستخدمها في ملاحقة المسؤولين عن اعتقاله لنحو أربع سنوات تعسّفاً. لكن المدعي العام في المحكمة الدولية دانيال بلمار، سعى إلى منع السيد من الحصول على المستندات، وذلك من خلال طعون تقدم بها بالقرارات التي اتخذها قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين أمام دائرة الاستئناف. لكن بلمار تلقى صفعات قوية بعد ردّ دائرة الاستئناف للطعون، فحاول الالتفاف على قرارات القاضي فرانسين عبر ادعائه أن تسليم المستندات يمثّل خطراً على سلامة الشهود (أي شهود الزور)، وعبر سعيه إلى تفسير قواعد الإجراءات والإثبات على نحو يتيح له حمايتهم من الملاحقة القضائية. ورغم تمكن السيد ووكيله أكرم عازوري من الحصول على جزء من المستندات، ما زالت القضية رهن المماطلة والتلاعب في لاهاي.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن إحالة الملف على المجلس العدلي تتيح كشف أسماء الأشخاص الذين فبركوا شهود الزور والذين يقفون خلفهم محلياً وإقليمياً ودولياً. فإذا تبين للقضاء أن دوافع الشهادات الكاذبة هي تضليل التحقيق، يفترض البحث في الأسباب. ويستدعي ذلك التوسع في التحقيقات وإحالة الملف على لاهاي من جديد لينظر فيه قاضي الإجراءات التمهيدية الدولي، فلا يُستبعد أن يتضمّن هذا الملف معلومات مرتبطة باغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ إذ إن الضالعين في جريمة، بنحو مباشر أو غير مباشر، غالباً ما يسعون إلى تضليل التحقيق فيها. وبما أن الاختصاص القضائي في جريمة اغتيال الحريري يعود بموجب قرار مجلس الأمن 1757/2007 إلى المحكمة الدولية، يفترض إحالة ملف شهود الزور عليها بعد مقاضاتهم.
لكن الأمين العام لحزب الله بدا أول من أمس فاقداً لأي أمل في إصلاح الشوائب التي تعاني منها المحكمة الدولية، وذلك للأسباب الرئيسية الآتية:
أولاً، إن الشوائب متعددة ومتشعبة، ولا تبدو استثناءً في هيكلية المحكمة وإجراءاتها، بل جزء من آليات تأمين وظيفتها السياسية.
ثانياً، لم تصدر عن المحكمة الدولية أية إشارات جدية تدلّ على اهتمامها بالنظر في مجرّد احتمال ضلوع إسرائيل بجريمة اغتيال الحريري. فإضافة إلى إغفالها القرائن التي أودعها حزب الله القضاء اللبناني، أغفلت بالكامل المذكرة التي أودعها إياها المحامي مروان دلال، رغم أنه عرّف عن نفسه بأنه محامٍ إسرائيلي كان يعمل لدى المدعي العام في المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة.
ثالثاً، انكشاف ما بدا فبركات استخبارية عبر الإعلام الدولي من خلال المقابلة المزعومة التي قام بها مراسل مجلة "تايم" الأميركية مع أحد المتهمين في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ إذ إن بلمار أشار إلى تلك المقابلة في مذكرة رفعها إلى غرفة الدرجة الأولى في المحكمة، مؤكداً أن "لا دليل على عدم صحّتها"، وذلك رغم ادعاء الجميع عدم معرفة اسم الصحافي الذي أجراها.
رابعاً، إن الرئيس نجيب ميقاتي قارب موضوع الشوائب التي تعاني منها المحكمة الدولية بخجل شديد. فبدل أن يبادر إلى تأليف هيئة وطنية عليا تضمّ خبراء في القانون وفي العدالة الجنائية تراقب عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وترفع تقاريرها الدورية إلى مجلسي الوزراء والنواب للتأكد من أنها تعمل وفقاً لـ"أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية"، أصرّ ميقاتي على تمويل المحكمة من دون أن يدقق في الإنفاق وفي نوعية العمل وصحة الإجراءات وصدقية "العدالة الدولية".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك