يطرح التغيير في العالم العربي الكثير من المشكلات والقضايا، لكنه يحصل شئنا أم أبينا لأنه ضرورة تفرض نفسها بقواها ومكوّناتها.
لو كنا نستطيع «هندسة التاريخ» وفق تصوراتنا لصنعناه بطريقة أخرى. لن يولد عالم عربي جديد إلا مما حبلت به هذه الأمة من معطيات سياسية واجتماعية وثقافية. كل آلام الولادة وتشوّهاتها، إذا كانت بنظر البعض تشوّهات، هي مسؤولية الذين أنتجوها لأنهم أصحاب السلطة والقرار. ماذا نفعل إذا كنا أمة ضعيفة لا تزال تتلاعب بمصائرها القوى الكبرى؟ ماذا نفعل إذا كنا بعد قرن على افتتاح معركة الاستقلال والوحدة والتحرر والتقدم عجزنا عن تحقيق هذه الأهداف؟
ماذا نفعل إذا كان المسؤولون في هذه الأمة قادوها إلى هذا المصير المليء بالغموض، المشبوه بالمؤامرات، المسكون بالهواجس، المثقل بالتحديات. هل نتخلى عن الأمة أم نتخلى عن قادتها؟! هل نرفض معطيات الشعوب أم نرفض سياسات الحكّام؟! هل نقبل رواية الشعوب لوعيها ولثقافتها ولطموحاتها أم نقبل رواية الحكام عن شعوبها؟!
لا نظن أمة اندلعت أحشاؤها على هذا النحو من الغضب والثورة والعنف والدم، وأخرجت كل هذه الظواهر الرائعة حيناً، والبائسة حيناً آخر، هي على خطأ وحكامها على صواب. ما يصح الجدل فيه الآن ليس الدفاع عن هياكل تنهار مع هذا الزلزال السياسي، بل كيف يمكن تقوية العناصر الإيجابية من هذا الحدث التاريخي. مدهش اكتشاف البعض الإسلام السياسي اليوم. مدهش المفاضلة بين العروبة والإسلام. مدهش سؤال الشرق والغرب. مقلق سؤال الدين والعلمانية. مذهل الخيار بين الاستبداد والديموقراطية. كأننا نردد أصداء ثقافة القرون الوسطى ونلوك الجمل الفارغة لزمن تخطاه العالم وتخطته الشعوب.
منذ نصف قرن لم نخرج من الهزيمة الحضارية الكيانية الوجودية التي فرضتها علينا «دولة إسرائيل». هل علينا أن نردد ما قاله البعض آنذاك إننا انتصرنا «فالأنظمة لم تسقط»!؟
هل علينا أن نختار الأنظمة وهي المتحوّل في التاريخ أم نختار الأمة؟! أسئلة ساذجة يفرضها علينا أتباع الأنظمة استخفافاً بعقولنا واحتقاراً لوعينا وتهويلاً علينا بالمستقبل الغامض أو المحفوف بمخاطر سيطرة حركات التشدد الديني والأصولية والسلفية وكبت الحريات. هذه مواجهة كان على النظام العربي أن يحسمها منذ قام على وعود الحداثة والتقدم والعلمنة لو كان يعني ما قال ويقول. هذه قضايا تتوالد الآن من رحم العجز والفشل لا من طبائع الشعوب. لكل قضية مطروحة الآن تاريخ زمني واقعي حي في ذاكرتنا ووعينا. هذه الأنظمة قامت على رعاية وتغذية ثقافة التخلف كإحدى وسائل سلطتها. استثمرت في العنف السياسي والاجتماعي والثقافي ونشرت ووطدت فكرة مصادرة الناس وإلغاء الآخر جماعة أم حزباً أم طائفة أم عقيدة. استبدت وفرّخت واستولدت «حثالة الاستبداد» في محيطها. هذه أنظمة مسؤولة عن «عفن الأمة وظلامية بعض من فيها». تجاوزت الأحداث والوقائع الحيثيات نحو ما هو قيد الإنشاء وما هو قيد التأسيس والتكوين من نظام عربي جديد. جاء الإسلاميون إلى السلطة وجاء الغرب في سياسة الاحتواء. فلا الإسلاميون نهاية تاريخ العرب ولا الغرب نهاية تاريخ العالم. يقف الغرب مستجدياً علاقات ندية مع دول كالصين والهند أو سواهما، ويخاطب الإسلاميون الجمهور بلغات متعددة وشعارات مختلفة ويستجدون الديموقراطية وصندوقة الاقتراع. لا شيء من نهايات التاريخ كما لا شيء سيعيد التاريخ على أعقابه.
لم تنقذ الشعوب العقائد والمؤسسات الشمولية ولا القيادات المخلّصة. تتأسس ثقافة الاستبداد لحظة تضع الشعوب آمالها وطموحاتها وإرادتها في يد زعيم أو حزب أو عقيدة. كلما تنازلت الشعوب عن إرادتها لصالح فئة أو جماعة أو فكرة خفضت منسوب حريتها وقدرتها على الفعل. ليست الديموقراطية إلا ثمرة من ثمار الحرية الفردية التي تكوّن إرادات جماعية دائمة التجدد والتغيّر. قد لا تكون الديموقراطية الانتخابية مكتملة فتنتج ما أنتجت من انحراف نحو الفاشية والنازية ومن سلطات تحكمها كتل الضغط والمصالح المهيمنة. لكن الديموقراطية في شكلها البدائي نقيض المشروع الشمولي اللاغي لوجود الآخر. يحصل الإسلاميون على سلطة تختارها أكثريات كبرى أو صغرى متحركة غير ثابتة. سحقتنا أقليات سياسية لم تمتلك رصيداً يضاهي أية أكثرية انتخابية. ما كنا فيه شرعيات قامت على شكل من أشكال القوة التي لم تخضع مرة لاستفتاء حقيقي.
ما يقلق ليس أن الإسلاميين يتقدمون على ما عداهم من نخب سياسية في ظل المسار الديموقراطي، بل احتمال الانقلاب على هذا المسار. لكن احتمالاً كهذا لا يقرره الإسلاميون وحدهم بمعزل عن قوة وضعف الطرف الآخر في المجتمع. الإسلاميون هم من يجب أن يقلق لأن رصيدهم السياسي دون نصف المجتمع الإسلامي الذي يدّعون التعبير عن هويته وثقافته. هذه المفارقة هي الوجه الآخر من حركة التغيير التي تلقي مسؤولية حماية الديموقراطية على النصف غير الملتزم بخيار أي نظام شمولي عقائدي مهما كانت هويته.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك