هل يلتزم لبنان أو لا يلتزم تطبيق العقوبات على سوريا، بعدما «نأى بنفسه» خلال التصويت على القرار في مجلس الجامعة العربية؟ هل القرار مُلزم للبنان المقسوم على نفسه عمودياً، أو أعمدة؟ هناك عدّة أوجه للإجابة عن هذا السؤال؛ الإجابات السياسية تستند إلى نظريات قانونية أو اقتصادية، لكنها لم ترتق إلى مواقف سياسية فعلية، وبقيت تصريحات لا يفهم منها سوى تمويه موقف لبنان الرسمي وتوزيع الأدوار بين السياسيين، كما هي الحال مع وزيري الخارجية عدنان منصور، والاقتصاد والتجارة نقولا نحاس. أما الإجابات القانونية فهي حاسمة وواضحة، لكنها تكون «مرعبة» اقتصادياً، لأنها تذهب باتجاه الاحتمالات ورسم السيناريو الذي ينسجم مع الحالة!
في رأي الخبير في القانون الدولي حسن جوني، إن قرار الجامعة العربية لجهة فرض عقوبات على سوريا لا يلزم لبنان بأي شكل من الأشكال، لا بل إن البحث في تطبيقه من قبل السلطات الرسمية في لبنان يعني أن الحكومة «تحاسب نفسها». ويرى جوني أن التزام لبنان تنفيذ قرار العقوبات، ليس ضرورياً بالمطلق، «فهناك نص صريح في نظام الجامعة العربية، يقول إن التصويت عندما لا يؤخذ بالاجماع، بل بالغالبية، يُلزم الدول التي صوتت عليه فقط». ويشير إلى أنه «لدى لبنان وغيره من الدول العربية الخيار بالتنفيذ أو عدمه، لكن لبنان لن يكون منسجماً مع نفسه إذا قرّر الالتزام خلافاً لكيفية تصويته على القرار، فهو لم يوافق عليه، بل ارتأى النأي بالنفس».
أما التبريرات المعلنة والخفية لمنظري الالتزام وعدمه، فقد تراوحت بين «أمر سيادي يعود للبنان تقريره»، وبين «القلق على الجاليات اللبنانية في دول الخليج». انعكست بورصة المواقف المتذبذبة ارتباكاً واضحاً لدى الجهات المعنية، ولا سيما مصرف لبنان، لجهة تطبيق العقوبات أو عدمه. ففي اللقاء الأخير بين الحاكم رياض سلامة وجمعية مصارف لبنان، أبلغ سلامة أعضاء الجمعية بأنه ملتزم ويجب أن تلتزم المصارف كل ما يتعلق بالمجتمع الدولي والقرارات الأميركية؛ لأن عمل هذه المصارف «يقع تحت رحمتهم». أما بالنسبة إلى باقي القرارات، فقال: «نحن ننتظر قرار الحكومة اللبنانية قبل إعلان تطبيق قرارات الجامعة العربية، فضلاً عن أن الأمر يعود إلى كل مصرف في اتخاذ الإجراءات التي يراها مناسبة لعمله».
حتى الآن، لم يخرج أي موقف رسمي من الحكومة اللبنانية بشأن التزام لبنان العقوبات السورية. فالساسة اللبنانيون شُغلوا خلال الأيام الماضية في ترميم تصدّع الحكومة على خلفية تمويل المحكمة الدولية. إلا أن الأيام التي تلت إقرار العقوبات، حملت جملة تصريحات بشأن التزام لبنان تطبيق العقوبات العربية على سوريا، تصدّرها الوزيران عدنان منصور ونقولا نحاس. الأول عبّر بوضوح عن أن لبنان لن يُطبق؛ «لأننا لا نوافق على هذه العقوبات ولن نسير فيها... لأن لها تداعيات سلبية كبيرة على لبنان بصورة مباشرة أو غير مباشرة». أما الوزير نحاس، فأوضح في أكثر من مناسبة أن قرارات الجامعة العربية «مُلزمة للبنان»، وذهب في اتجاه إعلان التزام لبنان تطبيق العقوبات العربية على سوريا «رغم عدم تصويته عليها»، وبالتالي «لن يكون هناك تعاطٍ اقتصادي أو مالي مع الحكومة السورية ولا مع المصرف المركزي السوري، علماً بأن نص العقوبات يحظّر التعامل مع الحكومة السورية، لا مع القطاع الخاص السوري».
موقف نحاس ينطوي على إيحاء بأن الالتزام سيكون صورياً؛ لأن طبيعة العلاقات بين لبنان وسوريا لا تطاولها العقوبات العربية، ما يعني أنه يجب على لبنان أن يبقى على علاقات جيدة مع السوريين ومع أوصياء قرار العقوبات الخليجيين. ويفسّر نحّاس لـ«الأخبار» موقفه بالإشارة إلى أن لبنان يحمي نفسه من أي تداعيات محتملة لتنفيذ قرار لا تتأثّر به العلاقة بين لبنان وسوريا، متسائلاً: «أليس هناك لبنانيون مغتربون في دول الخليج؟». لكن ماذا لو تطوّرت العقوبات إلى منحى مختلف، مثل منع انتقال الشخصيات والبضائع وتحديد لوائح العبور؟ يجيب نحاس: «عندها، لكل حادث حديث». في المقابل، يرسم أحد الوزراء صورة مختلفة لموقف لبنان، فيؤكد أنه في كل الأحوال «النتيجة ستكون واحدة، ولن يطبّق لبنان العقوبات؛ لأنه لا يكفي رأي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لإعلان التزام لبنان»، ويستطرد بأن لبنان «سينفّذ كل القرارات التي لا طابع سيادياً لها».
مالياً واقتصادياً، يُجمع المصرفيون والتجّار والصناعيون على أن تطبيق هذه العقوبات «مرعب»، بصرف النظر عن تأثيرها المباشر وجديتها. يبدأون حديثهم من حيث انتهى سلامة في لقائه الأخير مع المصارف حين أبلغها بأي عقوبات تطبق، وأيها يمكن تجاوزها. يؤكدون أولاً، أن كل العقوبات يمكن تجاوزها تجارياً، باستثناء تلك التي تؤدي إلى مصير مماثل لمصير البنك اللبناني الكندي.
هذا المصرف كان باكورة الاستهداف الأميركي الذي سرّب القلق إلى نفوس المصارف الأخرى. لذلك، إن غالبية المصارف اللبنانية تخشى أن ينالها قرار عقوبات أميركي جديد فتطبق حالياً كل العقوبات الدولية على السوريين وعلى الإيرانيين وعلى السودانيين، رافضة استقبال أي تحويلات خارجية لأشخاص سوريين أو فتح اعتمادات للمؤسسات المشمولة بالقرارات، فيما لديها لائحة شروط جديدة وكبيرة في حال قيام زبائن سوريين أو إيرانيين أو سودانيين بالتحويل إلى خارج لبنان.
أما إذا كانت العقوبات العربية تفرض على لبنان وقف التعامل مع المصرف التجاري السوري، فلا شكّ في أن السرية المصرفية تمنع «فضح حسابات المصرف المركزي السوري في لبنان، علماً بأنه لا يودع سوى 200 مليون دولار في لبنان» يقول مصرفيون متابعون للعمل في السوق السورية.
ويرفض المنتجون اللبنانيون مقولة نحاس أن العقوبات العربية لا تطاول القطاع الخاص، فتأثيراتها سواء نفّذ لبنان أو لم ينفّذ القرار ستكون حاضرة لأسباب عديدة أبرزها، مثل توقف الطلب في السوق السورية بسبب هذه العقوبات. فهذا الأمر ينعكس سلباً على كل الذين يعتمدون على المستهلك السوري لتصريف منتجاتهم، مثل منتجي الموز وبعض السلع الأخرى مثل الكرتون ومصانع الأسمنت، ومنتجي البيرة، والصناعات الغذائية، وصانعي السكاكر والحلويات، وصانعي الأثاث... وتضاف إلى ذلك، كميات تجارة اللحوم المبرّدة والمجلّدة، ومساحيق التجميل والعناية بالبشرة، والقمح والخشب... الأكيد أن كل هذه السلع لا تذهب إلى السوق السورية، فهناك قسم أساسي منها يذهب إلى الدول العربية. فمن المعروف أن مرفأ بيروت يمثّل معبر ترانزيت أساسياً إلى سوريا، وإن كانت البضائع تدخل إلى لبنان وتخرج إلى سوريا على أنها بضائع لبنانية. إذاً، نعود إلى القاعدة الأساسية التي لم يرهقها الزمن ولا تفاهات القوى السياسية: لبنان بوابة، وسوريا معبره إلى الخليج. ومع فرض هذه العقوبات سيخسر المعبر تماماً ما تخسره البوابة.
ومن أبرز الأمور المتصلة بالوضع ككل، وبالعقوبات بوصفها عاملاً في تأجيج الأوضاع في سوريا، هو أن المصانع اللبنانية لن ترسل البضائع إلى سوريا بالدين بسبب عدم ثقتها من استيفاء أموالها. وفي حال إغلاق الحدود مع سوريا، هل يصيب تصريف البضائع المنتجة محلياً، ما أصاب السياحة في لبنان خلال 2011 فتراجعت 24%؟ هل يتحمّل لبنان كلفة هذا الأمر؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك