اشارة يتيمة كانت كافية لانعاش الآمال المكسورة والنفوس الملهوفة في لبنان: الجيش السوري أنهى مهمّته في درعا، وانسحب مع أكاليل الغار.
اذا، الوضع تحت السيطرة والنظام استعاد المبادرة، ولم يعُد أمام غيارى الضاحية وتوابعها سوى الاستعداد للاحتفال بالانتصار "الالهي" الجديد.
لم ينتظر ملهوفو النظام "اللبنانيّون" انتهاء "جمعة التحدّي" وما فيها من تطوّر نوعي في توسّع حركة الرفض الى دمشق والمدن الكبرى، وشمول الاعتقالات رموزا مدنيّة ودينيّة للمعارضة، وسقوط عشرات القتلى، فظنّوا أنّ المسألة انتهت بالتأديب الدموي لدرعا، ولم يبقَ أمام النظام سوى معالجات أمنيّة فرعيّة، فتستتبّ له السلطة 40 سنة جديدة، على الأقلّ!
سمعهم الجميع على الهواء، وقرأوهم في الصحف: واحد يهدّد الشامتين، ثان يتوعّد الساكتين، ثالث يهدر دم المراهنين، رابع يبشّر بتعميم المثال البعثي الأسدي كحلّ عصري لأزمات المجتمعات والدول، وخامس يُشيد به كمنقذ للأقلّيات وحامي الذمم.
لم ينطبع في ذاكرتهم سوى قانون طوارئ 1963، والانقلاب "التصحيحي" 1970، واجتياح لبنان 1976، وتدمير الأشرفيّة 1978، وزحلة 1981، وحماه 1982، والجبل وطرابلس 1983-1985، والمتنين 1989-1990، وتهجير الأطراف واغتيال قادة لبنان، وتوريث 2000، وتعميق الانشقاق اللبناني منذ 2005 و 7 أيّار 2008، وانقلاب 2011، ورفع شعار "المقاومة والممانعة" الأجوف لاستباحة كلّ ما تحته، وصولا الى النموذج الدموي الراهن في درعا وسائر المدن والأرياف السوريّة.
هذه الذاكرة المكلّسة تجعل يتامى النظام وأرامله لا يصدّقون أنّه قابل للاهتزاز وآيل الى السقوط. في ظنّهم أنّه مصفّح أمام أمواج الحريّة، مدرّع ضدّ التغيير، لم ينل منه العرب والعجم، ولم يخشَ أعتى قوّتين في العالم: أميركا واسرائيل. لا ينتبهون الى قلق اسرائيل عليه وليس منه، ولا الى حرص واشنطن على بقائه باصلاحه (أليس هذا ما قالته هيلاري كلنتون في أحدث مواقفها؟)، ولا الى ليونة أوروبا. ولا يُثير ريبتَهم سحبُ الفرق المقاتلة والدبّابات من جبهة الجولان الى ساحات المدن وخطوط الربط بينها.
قد يأملون في دعم غير مسبوق من الشقّ الآخر "الممانع"، تلك الطهران الغارقة في مآزقها، بين ضرب رئيس جمهوريّتها، ورأس "القاعدة" التي تغذّيها، ورؤوس الجسور التي مدّتها الى الخليج وغزّة. تلك الطهران المأزومة في داخلها، وفي علاقتها بتركيّا والعرب والعالم، وهي ترى جسرها الأخير في لبنان غير سالك لتسييل انقلابه وتشكيل حكومته.
فكيف يأتي الدعم ممّن يحتاج اليه.
"وكيف يداوي القلبَ من لا له قلبُ" على قول الشاعر؟
مؤسفة ومقلقة حالة هؤلاء "اللبنانيّين"، يتسقّطون خبرا مريحا أو اشارة مطمئنة الى صحّة النظام الوليّ، يستبشرون بظهور رئيسهم بين أنفار من مؤيّديه، على غرار كلّ الحكّام عشيّة سقوطهم، يتمنّون في سرّهم أن يخرج القذّافي وصالح منتصرين، وأن يكون النموذجان التونسي والمصري معزولين، ولا يهمّ الانفكاك عن ايران في مسألة البحرين والتنسيق مع ملكها، ولا تفلّت "حماس" من الوصاية السوريّة - الايرانيّة وعودتها الى الحضن المصري العربي، بل المهمّ هو النظام كهدف وصنم، وحفظ رأسه عند تبدّل الدول.
ولكن، أيّ نظام وأيّ رأس سيبقيان بعد العاصفة؟
بالتأكيد لن يرث النظام نفسه، ولن يبقى فيه شيء من كهولته الأربعينيّة، وهو في كلّ الحالات سائر الى الزوال، سواء أصلح ذاته جدّيا فتُطيحه اصلاحاته كمن ينتحر بسلاحه، أو توسّل الحسم العسكري، كما يفعل، فيسقط بدويّ هائل.
والمشكلة تبقى أوّلا وأخيرا عند الأيتام والأرامل "اللبنانيّين".
فهل يتداركون فراغ الأب والزوج على شفير الوفاة، فتكون لديهم شجاعة الخروج من الرهان الخاسر، قبل فوات الأوان؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك