خرج اللقاء الإسلامي الموسّع في أول اجتماع له على هذا المستوى منذ العام 1983، بوثيقة سياسية مثقلة بالتناقضات التي تعطّل كل واحدة منها الأخرى، وإن قدّمت للرئيس المكلّف نجيب ميقاتي خدمة كبيرة سيتحصّن بها خلال المرحلة المقبلة تمثّلت بـ«تكليف سنيّ شرعي» بإجماع السنّة، «انقضّ» فيه على «ضعف» التكليف السنّي في استشارات التكليف، وإن كان هذا «التكليف الشرعي» جاء على قاعدة الثوابت الواردة في الوثيقة التي كشفت تناقضاتها عن «مقايضة» واضحة، برغم أن دعوة ميقاتي إلى «التبصّر في المواقف» جاءت في سياق النصيحة والتمني وليس من زاوية الفرض أو الحصار السياسي.
لكن اللافت للانتباه في الوثيقة أنها جاءت على شكل نداء أعاد إحياء التوجّهات العامة للسنّة في لبنان ونظرتهم إلى الدستور وصيغة الحكم، إلا أنها طوت مرحلة ست سنوات من الخطاب السياسي الذي أخذ السنّة في لبنان إلى عناوين سياسية تتخلّى عن توجهاتهم القومية التاريخية.
ويمكن القول إن ميقاتي نجح في التملّص من الكمين المتقن الذي نُصب له، واستخدمه جسراً عَبَرَه لانتزاع تفويض سنّي قلّ نظيره في تاريخ تشكيل الحكومات في لبنان، بغض النظر عن «شروط» هذا التفويض، أو ما تحمله مرحلة ما بعد هذه الوثيقة التي استخدمها ميقاتي للانتقال إلى المرحلة النهائية من التأليف الحكومي.
ويمكن القول إن «وثيقة أهل السنّة في لبنان»، باتت بمثابة «دستور جديد» لتوجّهاتهم السياسية يواكب المتغيّرات المحلية والخارجية، فضلاً عن أن تأكيد رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري في الاجتماع لميقاتي أنه ليس في موقع المنافس له، جاء بمثابة إقرار وقبول بـ«تداول السلطة»، ما يعني عملياً أن الحريري «سلّم» برئاسة ميقاتي للحكومة وكَسَر الجفاء الذي ساد بعد خسارته في الاستشارات النيابية، فضلاً عن أنه بدا حريصاً من دار الفتوى الى دارته على إضفاء ابتسامة صفراء مصطنعة أمام الكاميرات، تعويضاً عن ذلك التجهم الذي ارتدّ عليه سلباً خلال الاستشارات وقبلها أثناء استقباله الجاف والبارد والمقتضب للرئيس المكلف غداة التكليف.
لكنّ مضمون الوثيقة ـ الدستور سجّل تطوراً مهماً في الخطاب السنّي، بعضه مستعاد ومتأثّر إلى حدّ بعيد بخطاب ميقاتي في طرابلس قبل نحو شهرين عندما حدّد في احتفال تكريم عدد من العلماء والمشايخ أولويات السنّة في لبنان على أساس النقاط الأربع: رفض «التمذهب» باعتبارهم أمة والحضن الذي يستوعب الجميع، إعادة التزامهم بالقضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية، التأكيد على انتمائهم العربي، وأولوية الحفاظ على وحدة لبنان واستقراره على كل القضايا الأخرى. لكن في مقابل هذه الاستعادة للوعي السياسي السنّي برزت أفكار «مستجدة» ونافرة في «أدبيات» سنّة لبنان وتخرج عن خطابهم التاريخي، وبدا واضحاً أن ثمة «رباعياً» على رأسه فؤاد السنيورة ومعه ثلاثة «منظرين» هم من تولى الصياغة التي أصر ميقاتي عبر أحد معاونيه على إدخال تعديلات جذرية عليها، وفات احد قياديي «المستقبل» عندما أطل صباح أمس عبر إحدى الفضائيات اللبنانية قائلاً إن اجتماع دار الفتوى سيلزم ميقاتي بالاعتذار عن قبول التكليف، أن الأمور اتجهت باتجاه آخر على عكس ما أراده «المدبّرون».
في الشكل، توقف كثيرون عند الاستقبال الذي لقيه ميقاتي داخل قاعة دار الفتوى وعندما قال للحاضرين إن هذه الوثيقة هي اسوارة ثمينة يمكن استبدالها في أي وقت، لكن الأهم هو الزند الذي توضع فيه، أي هذا الطيف السني الواسع الذي لا يُستبدل ونريده ثابتاً وقوياً ومنيعاً بصورة دائمة، وعندها اعتلت صيحات «الله أكبر» من جانب بعض الحاضرين، ليتبين من خلال نظرات البعض أن ميقاتي نجح في إفساد الوظيفة الأساسية للكمين بالشكل قبل المضمون.
وفي الشكل أيضاً، لم يكن بمقدور لا مفتي الجمهورية ولا رئيس حكومة تصريف الأعمال رفع الاجتماع لو لم يبادر ميقاتي الى تجاوز دعوة قباني للتصويت على البيان، بالقول بصوت عال إن الوثيقة صدّقت بالإجماع، ليتبين أنه لولا هذه المبادرة لما أمكن أن تكون النهاية «سعيدة»، خاصة بعدما برزت أصوات معترضة، بدا معها الطيف السني المشارك غير معقود النصاب حصرياً لآل الحريري، بل موزعاً ومتنوعاً، ما جعل أحد المشاركين يجزم أن الاجتماع أنهى بمجرياته احتكار تمثيل الطائفة وأحادية التمثيل السني في لبنان.
ويمكن هنا تسجيل الملاحظات التالية على الوثيقة:
ـ أسقطت الوثيقة السياسية شعار «لبنان أولاً» الذي كان رفعه سعد الحريري كعنوان للمرحلة الماضية، لكن سقوط هذا الشعار جاء لمصلحة فكرة جديدة تقوم على الحياد من خلال «تجنب سياسات المحاور أو أن تكون بلادهم ساحة مفتوحة للصراعات».
ـ قفزت الوثيقة فوق المطلب التاريخي المزمن للمسلمين في لبنان بإلغاء الطائفية السياسية التي كانوا يرون أنها علّة العلل وسبب كل المشكلات التي تتالى في لبنان، ولم يشفع التأكيد الوارد في الوثيقة على اتفاق الطائف في الحفاظ على هذا المطلب، لأن ما ورد في الوثيقة عن «إقامة النظام اللبناني، وبالتوافق بين المسلمين والمسيحيين، شراكة في تكوين السلطة وفي إدارتها»، والتأكيد على توزيع الرئاسات على الطوائف، إنما نسف عملياً أي طرح لإلغاء الطائفية السياسية.
ـ وقعت الوثيقة في تنافض مكشوف عندما تحدّثت عن «النظام الوطني الديموقراطي» ثم تحفّظت على «أسلوب الإسقاط لحكومة الوحدة الوطنية بعد التعهّد بعدم الاستقالة، وفي ملابسات التكليف، خروجاً على مسائل مبدئية، يستحيل التسليم بهما عرفاً أو ميثاقاً».
ـ تبنّت الوثيقة السياسية خطاباً لطالما رفضه أهل السنّة في لبنان وناضلوا من أجل إسقاطه، حيث نصّت على تعابير تشكّل «نقزة» كبيرة لدى أهل السنّة، خصوصاً عندما تحدّثت عن «احترام خصوصيات الآخرين كقاعدة للمشاركة الوطنية» وفي ذلك تشابه كبير مع أدبيات «الجبهة اللبنانية»، إلا أن الوثيقة ذهبت أبعد من ذلك عندما كررت مقولات «الإحساس بالغبن أو بالإقصاء»، لكنها وقعت في المحظور عندما لوّحت بأن هذا «يُوَلِّد انعزالاً داخل الطائفة، ويقابله انكماش وتحفز» محذّرة بأن «ذلك أدى دائماً إلى تهديد الاستقرار الوطني، وحدوث النزاعات». وفي هذه «السقطات» تكون الوثيقة قد نسفت كثيراً من الطروحات الأخرى الواردة فيها على المستوى الوطني.
ـ يسجّل للوثيقة السياسية أنها أعادت «تصويب» العقل السنّي في لبنان والتزاماته التاريخية نحو قضيته المركزية فلسطين، وفي ذلك خطوة متقدّمة على هذا الصعيد تعيد القضية الفلسطينية إلى أجندة السنّة في لبنان بعد أن أُسقطت من حساباتهم لستّ سنوات مضت.
ـ نجحت الوثيقة في إعادة «ضبط» التوجّهات نحو العلاقة مع سوريا بعد أن لاحت محاولات تعكيرها بعد استشارات التكليف، وجاءت الوثيقة لتؤكّد أن «العلاقة مع سوريا هي جزء لا يتجزأ من هويتنا العربية»، بل وتقدّمت في طموحها نحو «الوصول إلى التكافؤ في الحقوق والالتزامات بين الدولتين الشقيقتين سواء في السياسة أو الأمن القومي المترتب على أزمات المنطقة، ومشكلات العلاقات الإقليمية والدولية».
ـ أهملت الوثيقة أي إشارة إلى قضية المقاومة وما حققته في لبنان، وكان يمكنها أن تورد خلف هذه الإشارة تحفظاتها على استعمال السلاح في الداخل، في حين أنها اعتبرت أن هذا السلاح يستخدم لفرض أمر واقع وسياسات لفريق على الآخرين.
ـ أما في ما يتعلّق بالمحكمة الدولية، فإن الوثيقة وجّهت تهم الاغتيالات التي وقعت في لبنان إلى الفرقاء اللبنانيين مسقطة أي دور للعدو الإسرائيلي، أو لغيره، بهذه الاغتيالات عندما رأت أن «الاختلالات الداخلية أدّت إلى فتح الباب أمام اعتبار الاغتيال وسيلة مباحة للتخلص من الخصوم»!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك