حاول الجيش الاسرائيلي الامساك بالعصا من طرفيها: الناطقون بلسانه ادعوا بانهم يعرفون بالضبط من بعث بالمتظاهرين في اجتياز الجدار الحدودي بيننا وبين سوريا ("يوجد هنا الهام ايراني ويد موجهة سورية، وهذا يقال انطلاقا من العلم"، قال ضابط كبير)؛ وحاولت محافل مختلفة استخدام الحدث باتجاه النظام السوري الآخذ في الضعف ("قلنا ان هناك تخوف من ان يحاول الاسد تنفيس الضغط نحو اسرائيل"). بالمقابل، اضطر ذات الناطقين للاعتراف بان اقتحام المتظاهرين قرب مجدل شمس فاجأهم وان القوات استعدت بالذات امام القنيطرة، حيث كان الاخطار باعمال الاخلال بالنظام على مستوى واسع. وعليه فاذا كانوا يعرفون على هذا القدر الجيد، فكيف حصل أننا لم نعرف؟
الحقيقة، التي تخرج عن جملة التقارير، تبدو على النحو التالي: ليس واضحا لماذا اندلعت الامور بالذات في "تلة الصياح"، ويحتمل بالتأكيد ان يكون هذا أمر عفوي. ورد الفعل المتوازن والحكيم لقائد اللواء، الذي وقف مع بضع عشرات من الاشخاص امام نحو مائتي شخص، الكثير منهم أطفال وفتيان صغار، ممن حطموا الجدار ودخلوا الى مجدل شمس، سمح لاسرائيل بانهاء الحدث بشكل معقول، والامتناع سواء عن انتهاك اشد لسيادتها أم لضرر دولي كبير. ذات مرة درجوا على القول في الجيش الاسرائيلي عن "النفر الاستراتيجي"، الذي عمله في الميدان كفيل بان يقرر امورا أكبر بكثير من القوة التي هو مسؤول عنها. عقيد استراتيجي واحد، دون استخبارات، منع أمس ضررا شديدا.
تسلل عنيف عبر الجدار هو فعل خطورته الموت، والنار نحو المهاجمين كانت مبررة. من جهة اخرى، النار الجماعية من أجل القتل كان من شأنها ان تدهور الحدث نحو الاتجاه الذي اراد المتظاهرون تحقيقه: صور ما يظهر كمذبحة جماعية لاناس غير مسلحين. قائد اللواء ورجاله اطلقوا النار بشكل مضبوط، ونجحوا اساسا في الاصابة. وكان الثمن وصول المتظاهرين الى المنازل المطرفة لمجدل شمس، وهو نوع من الانجاز المعنوي الذي ضرره اصغر بكثير من بضع عشرات قتلى في الجانب الاخر.
الادعاء بان كل شيء كان موجها ومتزامنا في الجانب السوري يجب أخذه على محمل الحذر. مثلما لم يستعد الجيش الاسرائيلي الا ببضع عشرات الجنود - حيث هرعت الى المكان بعد الحدث كتائب مدرعات ومظليين ومئات الشرطة، هكذا ليس النقط في القوى البشرية هو الذي أملى الانتشار الهزيل - هكذا كان في الطرف السوري نحو عشرين شرطيا فقط لم يسارعوا الى اطلاق النار نحو الراكضين. في الحدود اللبنانية بالمقابل، رد الجيش اللبناني، الذي اتهم منذ زمن غير بعيد عندنا بالتعاون الكامل مع حزب الله وفي أنه شبه ذراع للمنظمة، بنار أكثف بكثير نحو المتظاهرين الذين اتجهوا نحو الجدار الفصل.
الاستنتاج هو أنه من المجدي الحذر فيما نفكر باننا نعرفه. فليس كل ما يسمى "منظمة" مصنوع من جلدة واحدة. ليس كل شيء مرتب وموجه ويأتي من ايران، مهما كان مثل هذا المبرر يرن جيدا في المسامع الاسرائيلية.
الواضح هو أننا لم نتلقى فقط تذويقة اولى لما من شأنه أن يحصل في ايلول، بل وأيضا فهما كيف سيبدو الواقع والاستخبارات في عصر التفكك والتغييرات التي تميز المحيط اليوم. من يتوقع اخطارات موضوعية دقيقة، كانت منظومة الاستخبارات مسؤولة عنها في المواجهات مع الدول بل وحتى مع منظمة مثل حزب الله (قبل حرب لبنان الثانية احبط الجيش الاسرائيلي عدة أعمال خطف، بعضها بفضل الاستخبارات النوعية)، فانه ينظر في الاتجاه غير الصحيح: في واقع الانظمة الضعيفة أو غير القائمة، فان الامور من شأنها أن تندلع في الاماكن الاقل توقعا، دون الكثير من الاستعدادات المسبقة. التشديد يجب أن يكون على معالجتها حين تندلع، على رد الفعل المناسب للقوة في الميدان، وليس على المسألة الخالدة فيما اذا كان هناك اخطار. وعلينا أن نتعاطى بحذر لما تدعي الاستخبارات بانها تعرفه في الامور الكبيرة، وذلك لان صورة العالم أقل ترتيبا بكثير مما تحاول تقديمه لنا.
في المناطق تبدو الامور، على الاقل صحيح حتى يوم أمس، الى هذا الحد أو ذاك مثلما في التوقعات المسبقة. وهذه استندت بقدر غير قليل أيضا الى ما سمعه ضباط الجيش الاسرائيلي من قادة الاجهزة الفلسطينية، والى الثقة التي تطورت بين الطرفين في السنتين الاخيرتين. ليس أقل من ذلك، عملت هنا المصلحة الواضحة لسكان الضفة، الذين ليس لهم سبب حقيقي لضعضعة وضعهم المعقول نسبيا: مثل هذا السبب من شأنه أن يندلع في ايلول، حين ستطرح مسألة الدولة الفلسطينية بكامل خطورتها. سبب آخر لماذا محظور على اسرائيل أن تدس رأسها في الرمال، وتغلف نفسها بمبررات مثل المصالحة الفلسطينية الداخلية كي تتظاهر بان ايلول لن يأتي".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك