لما سقطت الشيوعية أحست الولايات المتحدة ان العالم في حاجة الى قطب آخر تعاديه واحتسب ان هذا القطب يمكن ان يكون الاسلام فوطدت علاقاتها بدول اسلامية وانشأت حركات اسلامية موالية لها لكنها ظنت ان الموالاة تدوم وبينت الاحداث سرعة التغير عند الاصدقاء في الحيز السياسي.
اهملت هنا ذكر الشخصيات الكبرى في العالم العربي التي صادقت الادارة الاميركية واسماؤها نشرتها هذه الادارة في كتاب مطبوع. ان التحول الذي حدث عند اسامة بن لادن نموذج فقط عن سلوك مألوف. من هنا لا يسوغ ان نستغرب عنف الاصدقاء الذين يصيرون اعداء. لا شيء يكفي المقربين اذا طرأ عليهم ما يجعلهم غرباء عن الاخلاص الاول.
ليست غاية هذه العجالة ان افسر عداء اسلاميا لاميركا. هي لغتها هذا العداء. ما اود ان اؤكده هنا ان ما يسمى عنفا ليس حكرا على احد في اطوار التاريخ. العنف له ظروفه وينتقل من جماعة الى جماعة. فقد مارس مسيحيو الغرب العنف او الظلم الاجتماعي في حق اليهود حتى الثورة الفرنسية. ومارسوه في حق المسلمين في محاكم التفتيش قانونيا حتى طرد او هجر المسلمون في الاندلس في آخر القرن الخامس عشر واضطهد الارثوذكس الروسيون المسيحيين المؤمنين القدماء الذين انشقوا عن الكنيسة الروسية. وللمسلمين انفسهم لا لي ان يفصحوا اذا كان تاريخهم مجيدا دائما من هذه الزاوية.
ما اؤكده موقتا ان المذابح ذات الطابع الديني قامت بخاصة في اوساط ديانات التوحيد بمعنى ان الذين لا يعبدون الاله الواحد لم يقوموا بمجازر الا اذا استثنينا احيانا قتل الهندوس للمسلمين.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو هل من علاقة في عملية العنف بين المؤمنين في كل دين وكتبهم المقدسة ام نستطيع ان نفصل بين الكتب واتباعها؟ السؤال الصعب جدا وكل مجزرة يجب ان تُدرس على حدة. ربما كانت اسبابا سياسية بحتة. ما من شك انه طرأت في الهند احيانا اعتبارات انتخابية.
■ ■ ■
ما يثير هذا السؤال في ذهني هو لماذا تمر اجيال ولا يصطدم اهل هذا الدين بذاك والكتب المقدسة واحدة. السؤال المتفرع هو هل ان النصوص التي تبدو عدائية او هي كذلك لا تولد عداء فعليا والنصوص الهادئة السلامية الحاملة بذار المحبة لا تنشئ سلوكا محبا؟
الصدق والمنهج العلمي يفرضان علينا ان نبحث في الرباط بين النص والمسلك. هل كان هناك رباط حتى لا نسترسل بالقول المتسرع ان هذا الدين او ذاك كله محبة وسلام وسماحة لتنزع عنه نوازع غذت الفريق المعتدي. الانسان يأتي من النصوص الهاما في كثرة من الاحاديين ولا يأتي احيانا ولا يسوغ ان نسقط على الدين سلوك ابنائه دائما بالضرورة قبل ان نفتش عن الاسباب المجتمعية والسياسية التي قد تفسر الحادث.
المجموعة العنيفة تأتي او لا تأتي من المصادر المكتوبة لكنه يكون نوعا من الفصام ان نقول ان هذه المجموعة تأتي من العدم العقدي او من جهلها للمصادر وان ما تم قد تم مصادفة بسبب من انفعالات طارئة. ليس في حياة الشعوب من طارئ. ان تقول مثلا ان المسيحية كلها محبة وان المسيحيين القتلة في هذا الحادث لم يستلهموا المسيحية لا يفسر شيئا. ان نقول في حالة قتل قام به مسلمون الاسلام براء من هؤلاء لا يفسر شيئا. هذان الموقفان تفرّج على الدم. لذلك تبقى التربية الدينية وقبلها يجيء اللاهوت. ماذا تقول المسيحية في مناهلها وتاريخها سيئ جدا باعتباره مليئا بالدم. ماذا يقول الاسلام في تاريخه وتاريخه فيه بعض قتل.
لكون اهل الديانات التوحيدية ارتكبوا ولأن بعض المرتكبين ما كانوا اغبياء لا بد ان نفحص ما اذا كان هذا الدين او ذاك فيه بذور من العنف او فيه عنف واضح وهذا لا يصير الا بتفسير اي قراء عليم الى اي دين انتمى. لان الدين لغة. انا مثلا لا يذهلني ان عالما يابانيا يعلم العهد الجديد ولست اذكر ان كان بوذيا او شنتويا وله ان يفهم العهد الجديد كما يفهمه اي عالم مسيحي. الانجيل نصوص تعرب. والقرآن تصوص تعرب. لويس ماسينيون في ايام دراستي في باريس اي في مطلع الخمسينات اعطى خلال سنتين تفسير سورة البقرة ولم يتهمه احد بالجهل او التحامل وكان يتبع تعليمه طلاب مسلمون.
التفسير لكل النصوص التأسيسية في كل ديانة تفسير تاريخي. لان النصوص قد قيلت لناس عاشوا في زمن معين. وما كان مرتبطا عضويا في زمن لا يؤخذ معناه كاملا من الزمن المحدد. لذلك هناك مرونة في التفسير لا ترتبط فقط باللغة. المعنى المطلق هو في الله. لذلك ليست اللغة مطلقة. ان لم يكن عند المفسر حس تاريخي يعسر عليه جدا ان يلهمك اليوم عمق المعنى الالهي. معنى ذلك ان ما اجيز في فترة من الزمن قد لا يجوز في فترة اخرى.
هناك إذاً تفهم للنصوص الديني كما تفهم اي نص آخر في ادبيات العالم.
الى هذا كل ديانة لها روحها اي منهجها الفكري العام ولها تراثها وحيويتها والاقدمون فيها. من هذا المنظار ليست الديانات واحدة. ظروف انكشافها وتلقيها وابعادها الفكرية ليست واحدة ولا معنى للقول انها تختلف بالاحكام فقط. فهناك المسيحية التي ليس فيها نظم شرعية ولا احكام. هي شيء آخر عن كل منظومة دينية. هناك تقارب مع انظومات اخرى. لكنها قائمة في ذاتها. هكذا الاسلام قائم بذاته وله روحيته وحركيته وتراثه وعمقه. والفروق بينه وبين اية ديانة اخرى ليست قليلة. لكن القلوب والعقول النيرة تجعلك تتبين حقيقة من ذاته بلا تشبيه بغيره. المهمة تبقى كيف تكشف الحب فيه وانسانيته وسموه لا تجعله مندمجا بالمسيحية او اليهودية ولكن لتذوقه من صميمه وتتركز على ما يدعو فيه الى المحبة وتتركز بالطريقة نفسها على المسيحية لتحس بتجلياتها وقدرتها على صنع قلوب طيبة تستطيب كل بهاء خارج حدودها.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك