بالأمس القريب، سجّل مواطنون لبنانيون كثر، عبر الإذاعات، على اختلاف توجهاتها السياسية، مطالباتهم بإضراب عام يشمل كل عمال لبنان، ويطالب بخفض أسعار المحروقات ومراقبة أسعار السلع الغذائية وغير الغذائية، تلك التي تخضع للمنافسة، وتلك التي يحكمها الاحتكار. واستخدموا عبارات «الإضراب المفتوح» و«ضدّ كل الزعماء والنواب والوزراء» و«ليس مهماً أن يشكلوا حكومة لأنها ما بتقدّم ولا بتأخر». هؤلاء وصفوا شعورهم بضيق سبل العيش وبالأفق المسدود وباليأس من التوصل إلى عيشة كريمة في لبنان.
وتأتي تلك الصرخات من يوميات اختنقت فيها سبل العيش. يوميات، برفقة راتب يدلّ على أن صاحبه يبذل الجهد لينتج مدخولاً له ولأسرته، إلا أنه يصل إلى آخر الشهر وفي حلقه صرخة ضد العجز الذي يصيبه ويشلّه.
في ما يلي، قصة لبنانيين من فئة أصحاب الشهادات، ممن فضلوا العيش في لبنان على الهجرة أو العمل خارجاً.
وقد تشبه قصتاهما قصص كثيرين من المواطنين اللبنانيين، ممن ترتهن حيواتهم براتب يتقاضونه في بداية كل شهر، فيحدّد كيف يقضون عطلهم وأين يلعب أطفالهم ومستوى مدارسهم وربما نظامهم الغذائي...لا ضرورة لتشكيل حكومة!قد تترجم حالة الموظف العام رامي حرب، والمدير في إحدى الشركات الخاصة وجدي مطر، واقع «المعيشة» في لبنان. تجدر الإشارة إلى أن كلاً منهما اختار اسماً مستعاراً، «لأن الاسم الحقيقي تفصيل، ولأن واقعي يشبه واقع الآلاف من اللبنانيين»، كما يقول رامي، بالإضافة إلى كونه ممنوعاً من التصريح إلى الصحافة بصفته موظفاً عاماً.
واللافت أن رامي ووجدي أبديا رد الفعل نفسه، حين سُئلا عن أهمية تشكيل الحكومة الجديدة: «غير مهمة ما دام الزعماء السياسيون هم أنفسهم وما دامت التشكيلة الوزارية ستخضع لمحاصصتهم». كما توحدت إجابتاهما حين سئلا عن راتبيهما، إذ ضحك الاثنان باستهزاء. وعلّق رامي: «لا أدري إن كان ما نتقاضاه بالمقارنة مع غلاء المعيشة في لبنان يمكن أن يُطلق عليه اسم راتب!»، فيما لفت وجدي «قد يبدو راتبي مهماً بالنسبة للغير، لكنّه فعلياً لا يتناسب ومنصب مدير، فأصحاب الشركة تكرّموا علي باللقب وأهملوا كل ما يجب أن يترافق والمنصب من تقديمات أو حتى زيادة تدريجية على الراتب».
يفصح وجدي انه يتقاضى ثلاثة آلاف دولار شهرياً، «وهي بالنسبة إلى البعض تشكّل أجراً جيّداً جداً، لكنّها في واقع الحال بالكاد تكفي عائلة مؤلفة من خمسة أفراد: أب وأم وثلاثة أولاد». ويلفت إلى أن أياً من أولاده لم يصل إلى سنّ المراهقة بعد، ما يعني أن متطلباتهم ما زالت محصورة بالثياب ومستلزمات المدرسة وبعض الألعاب والنزهات: «يعني ليس هناك مصروف خاص للهاتف الخلوي ولا سهرات كل نهاية أسبوع ولا مجموعة ملابس لكل موسم...».
ويشير إلى أن الكلفة التي تتطلبها العائلة للاستهلاك اليومي «من طعام ومصاريف تنقّل ومصاريف عامة في المنزل وخارجه، لا يمكن أن تنخفض عن المئة دولار. وإذا ضربنا مئة دولار بثلاثين يوماً، تساوي ثلاثة آلاف دولار، وهو راتبي بالتمام والكمال من دون احتساب الأقساط المدرسية ولا الطوارئ الصحية ولا مصاريف استهلاك السيارة غير الوقود... ناهيك عن المصاريف الاجتماعية التي نحاول اختصارها إلى حدّها الأدنى».الزوجة.. تساهم ولا تساهمبعد التفكير ودراسة الأوضاع، فضّل وجدي أن تلتزم زوجته المنزل، لأن عملها سيضيف إلى مصروف العائلة: «أنا لا أريد الانتقاص منها ومن طموحها المهني. لكن زوجتي عملت خلال سنوات الزواج الأولى كخبيرة محاسبة. وكانت تتقاضى حوالى ثمانمئة دولار تشارك من خلالها في دفع أقساط المدرسة، بالإضافة إلى توليها مصروفها الخاص. الا أن غلاء المعيشة اليوم حوّل نعمة راتبها إلى نقمة.. لأنها، إذا عملت، عليها أن تقتطع جزءاً من راتبها لتنقّلها إلى العمل، وكلفته حوالى مئة وخمسين دولاراً، وجزءاً آخر لحضانة طفلتنا الصغيرة، يوازي أقلّه مئتين وخمسين دولاراً، بالإضافة إلى مئة دولار على الأقل لسيدة تساعدها في الشؤون المنزلية، كون عملها لا ينتهي إلا عند الخامسة مســاء. ما يعني أنها تعمل فعلياً مقابل راتــب قيمــته ثلاثمئة دولار فقط».
يضطر المدير إلى الاقتراض من صديق أو قريب على الأقل مرتين في السنة، وذلك إما لاستكمال أقساط أولاده المدرسية وإما لتلبية طوارئ في البيت. ويزعجه كثيراً أنه لا يستطيع تلبية متطلبات منصبه كما يجب، سواء من خلال تلبية الدعوات أو من خلال اهتمامه بأناقته.
مثله، يعتمد رامي مبدأ الاقتراض، ولكن بوتيرة شبه شهرية. وهو لا يستطيع الاستغناء عن عمل زوجته التي تتقاضى حوالى ثمانمئة ألف ليرة لبنانية، تساهم من خلالها في تسديد قسط قرض الإسكان، وتساعد في مصروف البيت بما يتبقى من راتبها، أي حوالى مئتين وخمسين ألف ليرة، «هي فعلياً لا تكفي لأكثر من أسبوع»، يقول رامي.
هو يتقاضى حوالى ألف ومئتي دولار شهرياً، وهو أب لصبيين يدرسان في إحدى المدارس الخاصة، ما يكلّفه حوالى ثمانية ملايين وخمسمئة ألف ليرة لبنانية من دون احتساب متطلبات المدرسة الشهرية من قرطاسية ولوازم أخرى. أي ما يعادل مجموع راتبه لحوالى خمسة أشهر.وداعاً أيتها الطبقة الوسطىيؤكد رامي أنه لو كان يشغل وظيفة عامة يستطيع من خلالها تقاضي الرشى، لما كان تأخر عن فعل ذلك.. «لأننا ما عدنا كمتخرجين من الجامعات نحتسب من الطبقة الوسطى، أنا أشعر أني فقير وفقير جداً».
فعلياً، لا يستطيع رامي أن يفنّد كيف يصرف راتبه لأن «الأمور تخرج عن السيطرة أحياناً. وأنا لا أقصد التبذير أو الصرف العشوائي، ولكن، في كل شهر، ننتقي مجموعة من البديهيات والأولويات. حتى أننا قد نرجئ معاينة شهرية عند طبيب الأطفال أو نستعيض عنها باستشارة صيدلاني».
الثابت في مصروق رامي هو دفعه حوالى مئتين وخمسين دولاراً ثمناً لتنقلاته من العمل واليه، وحوالى مئة وعشرين دولاراً كبدل اشتراك في المولد الكهربائي وخدمة «الدش» وبدل صيانة المبنى الذي يقطن فيه. كما تصل فاتورة هاتفه الخلوي، وهو الهاتف الوحيد في العائلة، إلى حوالى مئة دولار أو مئة وخمسين دولارا، حداً أقصى. ما يساوي حوالى نسبة الأربعين في المئة من راتبه. وبالتالي، فإن عائلته تعتاش يومياًَ من حوالى نصف الراتب، أي ما يوازي ستمئة دولار بالكاد تكفي لوجبات الطعام اليومية.
لذلك، يرى رامي نفسه مضطراً للاقتراض من حساب شقيقه المغترب، «أسحب منه مبلغاً لا يتعدى المئتين أو ثلاثمــئة دولار كلــما احتجت، وأحاول أن أفيها من رواتب الأشهر التالية».
قصتا وجدي ورامي لا بدّ أنها تشبه آلاف القصص في المجتمع اللبناني، هما بالأحرى قصة الراتب الذي يتحكّم بيومياتنا ويثبت لنا ما أن يحلّ منتصف الشهر أننا بعيدون كل البعد من أن نشكّل اجتماعياً ما يعرف بالطبقة المتوسطة.
ويبقى الاعتصام أو التظاهر لأجل المطلب الاجتماعي مرجأ، ما دامت الحلول الجزئية تحكم الدولة العاجزة عن التشكّل.. فكيف بإيجاد الحلول لمشاكل مواطنيها؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك