تنتهي جلسات المناقشة العامة للحكومة بالطريقة نفسها لتقاليد التئامها: احترام أحكام النظام الداخلي فقط من دون طرح الثقة بوزير أو أكثر، أو بالحكومة برمتها. هكذا اكتفى النواب المعارضون والموالون بتبادل الاتهامات ونبش الملفات، وأحياناً القبور، والتشهير بالسمعة
صرفت جلسات المناقشة العامة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي في مجلس النواب الاهتمام عن أزمة مؤجلة تنتظر عودة رئيس الجمهورية ميشال سليمان من أوستراليا، للخوض مجدّداً في مصير مشروع القانون المعجّل الرامي إلى فتح اعتمادات إضافية بقيمة 9800 مليار ليرة، ورفع سقف الإنفاق وفق القاعدة الاثني عشرية. لا تزال الأزمة مجمّدة عند قرار سليمان التريّث في إصدار مرسوم يضع مشروع القانون المعجّل موضع التنفيذ عملاً بالمادة 58 من الدستور. ولم يرسل بعد إشارات كافية إلى المخرج الذي يتوقعه لها، سوى رغبته في إنجاز تسوية عليه في مجلس النواب كي لا يبدو أنه خرج من موقعه التوافقي بين قوى 8 و14 آذار.
لم يوصد الباب تماماً من دون إصدار المرسوم، ولا يريد استعجاله. وتصرّف على أن المشكلة بين الموالاة والمعارضة في البرلمان، وليست مع رئيس الجمهورية، ولا هو طرف مباشر فيها ضد المعارضة أو ضد المجلس برمته، ما دام استخدام المادة 58 يتوخى فرض إصدار مشروع القانون المعجّل بمرسوم، ويتيح كفّ يد المجلس عنه بعد انتهاء المدة التي ترعى عجلته فيه. بيد أن استمرار تعثّر التسوية يضع الرئيس أمام أحد خيارين: استخدامه الصلاحية الدستورية في نهاية المطاف، أو ترك المشكلة بلا حلّ مفتوحة على ارتدادات مالية مكلفة.
ومع أن رئيس الجمهورية عوّل على أيام زيارته لأوستراليا كي تعثر على الحلّ داخل المجلس ما دام مشروع القانون لا يزال بين يديه، أتت جلسة المناقشة العامة كي تحجب الاهتمام المباشر بهذه الأزمة، وتنصرف إلى السجالات والاتهامات المتبادلة بين الموالاة والمعارضة. حتى هذا الوقت ضاقت الخيارات المتاحة أمام مشروع القانون المعجّل:
ــ لا الأكثرية قادرة على التصويت عليه بسبب افتقارها إلى الغالبية النيابية. فأضحت موافقتها على مشروع القانون في مجلس الوزراء، وإضفاؤها طابع العجلة عليه لحاجتها إلى تشريع المال أكثر منها إحراج المجلس، عديمة الجدوى.
ــ ولا المعارضة تمنح أصواتها لمثل هذا التصويت من دون ربط مبلغ 8900 مليار ليرة بآخر هو 11 مليار دولار، في صفقة إبراء ذمة مالي وسياسي متكامل.
ــ ولا الحكومة طلبت استرداد مشروع القانون المعجّل لدرسه مجدّداً في مجلس الوزراء، بغية إيجاد مخرج يوفر له الغالبية المطلوبة، ويزيل التباين بين رئيس الجمهورية وفريق من وزراء الغالبية الحكومية.
ــ ولا رئيس الجمهورية يُصدره عملاً بأحكام المادة 58 بالصيغة التي أحيل بها على المجلس، بعدما نظر باهتمام إلى التعديلات التي أدخلتها عليه لجنة المال والموازنة، ويوحي بأنه لا يريد تجاهلها.
يدور مشروع القانون المعجّل، كما الأفرقاء المعنيون به، في حلقة مفرغة: لا مجلس النواب قادر على إقراره، ولا رئيس الجمهورية يريد انتزاعه من المجلس.
هكذا تُحمّل أزمة مشروع القانون المعجّل البرلمان تارة، ورئيس الجمهورية طوراً، علّة المأزق. على صورة مشابهة كانت جلسات المناقشة العامة في اليومين المنصرمين.
لم ترمِ النبرة العالية، المترجّحة بين التصلّب والتشنّج، لحملات نواب المعارضة على حكومة ميقاتي إلا تعويض عدم طرحها الثقة بها. ومع أن النظام الداخلي للمجلس يمكّن جلسة المناقشة العامة من طرح الثقة بوزير أو أكثر، أو بالحكومة مجتمعة، تجنّبت المعارضة هذا الخيار بعدما أشاعته أياماً قبل التئام جلسات المناقشة وسمّت وزيرين يشكلان هدفها المباشر، وأخرجت رئيس الحكومة من التصويب المباشر. ثم تخلّت عن هذا التهديد بحجج مختلفة، تشبه إلى حدّ كبير تلك التي رافقت أزمة مشروع القانون المعجّل. وأبرزها:
1 ــ تعذّر وجود غالبية نيابية توافق على طرح الثقة بوزير، أو بالحكومة مجتمعة، وخصوصاً بعد إعلان رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط أنه لن يؤيد أي محاولة لطرح الثقة بالحكومة، متمسّكاً _ حتى إشعار آخر _ ببقائها ومشاركته فيها. لذلك عزا نواب المعارضة امتناعهم عن طرح الثقة إلى تحفّظ جنبلاط، المطابق لتحفظه أيضاً عن توفير غالبية نيابية لإقرار مشروع القانون المعجّل من دون ربطه بمبلغ 11 مليار دولار أميركي.
تسبّب هذا الموقف بانقضاء مدة 40 يوماً ووضع رئيس الجمهورية وجهاً لوجه أمام المادة 58، وكذلك بإشعار قوى 8 آذار بأنها لا تزال ــ في الظاهر على الأقل ــ تمثل أكثرية تحفظ لها استمرارها في السلطة.
2 ــ في ظلّ فقدان غالبية ترجّح كفّة التصويت، فإن طرح الثقة بوزير أو بالحكومة مجتمعة، يضع المعارضة في موقف محرج ومربك لا تبحث عنه. كانت قد امتنعت في تموز الماضي عن منح حكومة ميقاتي الثقة، وخرج كل نوابها من القاعة عند بدء التصويت إيذاناً بمقاطعتها، فحازت الحكومة ثقة الغالبية المتوافرة آنذاك. بيد أن إخفاق المعارضة في حجب الثقة عن وزير لا يقتصر عندئذ، في ختام جلسات المناقشة، على بقائه في منصبه، بل يؤكد أيضاً الثقة بحكومة ميقاتي في حضور نواب المعارضة، ويمنحها دفعاً إضافياً ويضع المبادرة في يدها، ويقلّل مظاهر التناقض التي تتخبّط فيها.
3 ــ لأن جلسات المناقشة العامة ستنتهي، شأن سائر الجلسات المماثلة أو جلسات الاستجوابات التي خبرها البرلمان، بتفرّق النواب والانتقال بالجدل والسجالات من قاعة المجلس إلى الشارع، فإن أياً من طرفي النزاع لم تُسئه كثيراً خاتمتها التي لم تُخلّ بتوازن القوى الحالي: لا المعارضة التي قالت كل ما لديها من غير أن تحرز تقدّماً جدّياً في معركتها المفتوحة مع حكومة ميقاتي، ولا الغالبية توقعت أسوأ ممّا قيل وكانت قد سمعته وأعدّت نفسها له، وإن بدت أكثر اطمئناناً إلى رهان بقائها في السلطة حتى موعد انتخابات 2013.
4 ــ انتهت جلسات المناقشة العامة إلى الحجّتين الضعيفتين: أولاهما أن المعارضة لم تجد مبرّراً للاعتقاد بسقوط حتمي ووشيك للحكومة إلا بانهيار تجده أيضاً وشيكاً لنظام الرئيس بشّار الأسد. وهي بذلك سلّمت ــ أو كادت ــ باستمرار بقاء حكومة ميقاتي ما دام النظام يستنزف صراعه مع معارضيه في الداخل السوري، وما دام قرار مجلس الأمن رقم 2042 وضع الأسد إلى طاولة التفاوض لا خارجها. ثانية الحجّتين الضعيفتين أن الموالاة دافعت عن النظام كما لو أن شيئاً لم يطرأ في بلاده منذ أكثر من سنة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك