ذكرت صحيفة "النهار":
ستطول، ولا ريب، عملية البحث عن عمق الاسباب والدوافع التي حدت بالنائب سامي الجميل الى الاقدام من خارج كل السياقات والاحتمالات والحسابات على خطوة طرح الثقة بحكومة الرئيس نجيب ميقاتي ليل أول من أمس. لكن ثمة في صفوف الاكثرية من يستنتج في عملية تقويم سريعة للحدث برمته بعدين أساسيين: الاول: أن الامر كله يعود الى شخصية النائب الجميل الباحثة دوما عن تمايز وفرادة يستعيد عبرهما دور حزبه المركزي من قوى أخرى في الشارع المسيحي.
اضافة الى ان لدى الجميل الابن فضيلة الجرأة على كسر "تابو" سياسي لبناني، وهو أن لا طرح للثقة بأي حكومة ما لم تكن هناك كلمة سر تقود الى ذلك. وعليه، وبصرف النظر عن الكثير من الاعتبارات، نجح القيادي الشاب في الحزب المسيحي الاعرق في ان يخطو خطوة في مجال تقديم نفسه نموذجا للزعامة المارونية المستقبلية التي تريد ان تستعيد دور الريادة الذي تعتقد شريحة من المسيحيين انها فقدته بعد اتفاق الطائف.
الثاني: ان الجميل، قدم في عرف كثيرين في صف الاكثرية، خدمة جلّى لفريق 8 آذار وتحديدا للرئيس ميقاتي. فلم يعد خافيا انه بعد عملية التهشيم الممنهج الذي تعرضت له حكومته منذ نهار الثلثاء الماضي والذي كانت ذروته في حملة التجريح الشخصي به، أتت عملية تجديد الثقة بحكومته بمثابة انطلاقة جديدة لها و"تبرئة" ذمتها عن المرحلة الاولى من عمرها.
وثمة "فضيلة" اخرى لخطوة طرح الثقة من خلال مسارعة أركان فريق الاكثرية الى التوافد الى القاعة العامة لمجلس النواب، بعدما علم هذا الفريق بنية الجميل الاقدام على هذه الخطوة.
اضافة الى ذلك بدد المشهد الذي ارتسم بعد السادسة مساء أول من أمس في مجلس النواب، أجواء سادت كواليس الاوساط السياسية على ضفتيها الموالي والمعارض، وفحواها ان ثمة طلاقا وشيكا بين ميقاتي وشركائه في الحكومة اثر تفاهم "غير مرئي" عقده هو بغية تأليف حكومة تكنوقراط تكون هي المشرفة على الانتخابات المقبلة.
فما حصل، أما انه يدل على عدم دقة نبأ هذا التفاهم، الذي شغل أوساط الاكثرية خصوصا طوال الايام العشرة المنصرمة الى درجة انها بدأت تفكر جديا في الخيارات البديلة، وإما ان ظروف انضاج "طبخة التفاهم المحكي عنه لم تتوافر بعد، وأن أوان تظهيرها لم يحن.
ومما لا ريب فيه أن في صفوف الاكثرية من سرّه مشهد الانسحاب الجماعي لنواب المعارضة من قاعة المجلس لحظة طرح الثقة بالحكومة. وقد تبين لهم ان هؤلاء لم يشأوا الدخول في تجربة يعتقدون انها خاسرة سلفا، لا سيما أن تصعيدهم بلغ سقفه الاعلى خلال الايام الثلاثة الماضية، اذ لم يتركوا سلاحا إلا واستعملوه ضد هذه الحكومة ولم يتركوا "احتياطا" كلاميا او سياسيا إلا واستنجدوا به، ولكن لم يكن لديهم جرأة الجميل في الاقدام على طرح الثقة بحكومة أقل ما قالوا عنها إنها "ميتة" وإن إكرامها من خلال دفنها.
ولا شك ايضا في أن ثمة من يتوقف عن "اختفاء" بعض فريق نواب "جبهة النضال الوطني" من القاعة العامة عند بدء التصويت على الثقة بالحكومة، فهو وان لم يغير في النتيجة شيئا إلا أن في الاكثرية من يتوقف عند أبعاده ودلالاته السياسية، خصوصا اذا ما ربط هذا السلوك بخطوات سابقة لهذا الفريق، بادر خلالها الى الانحياز الى جانب طروحات ورؤى معينة لفريق المعارضة سواء في داخل جلسات الحكومة او في أروقة مجلس النواب، ولعل أبرزها الموقف من موضوع اقرار الـ8900 مليار ليرة للحكومة.
واذا كان ثمة ما يمكن رصده والتوقف عنده في جلسات المناقشة الاخيرة للحكومة فهو تركز سهام انتقاد المعارضة المكثفة على وزراء "تكتل التغيير والاصلاح" وأدائهم. وهناك من يعزو هذا الامر الى دوافع عدة أبرزها:
- أهمية الوزارات التي يشغلها وزراء هذا الفريق.
- ان المعارضة ماضية قدما في محاولة محاصرة هذا التكتل وفريقه الوزاري امام الجمهور، انسجاما مع خطة عنوانها العريض عدم اعطاء الفرصة لكي ينجح وزراء هذا الفريق ويقدموا أمرا مميزا.
لكن الثابت ان نواب هذا الفريق ووزراءه قد أعدوا للأمر عدته، ونظموا هجوما مضادا على "تركة" الحكومات الحريرية.
اما بالنسبة الى "حزب الله" فلقد خرج من خلال هذه الجلسات باستنتاجات عدة أضاءت له على كثير من الزوايا لم تكن في حسبانه وأخرى تيقن منها أبرزها:
- لقد بات مقتنعا بأن الكلمة التي ألقاها الرئيس فؤاد السنيورة في خواتيم الجلسات ستكون "خريطة طريق" لفريق 14 آذار وتحديداً "تيار المستقبل" المادة الاساسية التي سيعتمدها هذا الفريق لخوض غمار الانتخابات المقبلة.
- المعطى المفاجئ والمستجد الذي دخل على متن خطاب هذا الفريق هو التركيز على رفض ان تكون الحكومة الحالية هي المشرفة على الانتخابات المقبلة، فهو بالنسبة الى الاكثرية كلام يؤشر لاحدى المواد الاساسية التي سيعبئ فيها "تيار المستقبل" وفريق 14 آذار جمهوره، وهي مادة تخدم ولا شك توجه هذا الفريق الداعي الى اقامة حكومة "تكنوقراط" محايدة تتولى هي مهمة الاشراف على هذه الانتخابات، فضلا عن ان ذلك سيكون جزءا لا يتجزأ من عدة هذا الفريق للمساومة والمقايضة حول قانون الانتخاب الجديد بعدما أفصح عن رغبته في بقاء قانون الستين هو النافذ، لكي يسد السبل امام أي تفكير جدي يتبني قانون انتخاب آخر يعتمد على مبدأ النسبية.
ولقد بدا واضحا أن "حزب الله" بذل هذه المرة جهودا أكبر لمواجهة الهجمة عليه من نواب "تيار المستقبل"، واضطر لاحقا ألا يكتفي بالموقف الدفاعي الذي اعتاد أن يقفه، انفاذا لنهج يعتمده منذ زمن، وهو الابتعاد قدر الامكان عن دائرة السجال التي يحاول "المستقبل" دوما جره اليها واعتقادا منه أن هذا الفريق يستفيد منها.
وفي كل الاحوال ثمة مصادر تتحدث عن أن "حزب الله" سيعيد النظر في أسلوب المواجهة الذي داب على اتباعه، لكي لا يؤخذ على حين غرة. وهو اذ يرفض الافصاح عن معالم أسلوبه الجديد ثمة من يؤكد ان زمن استفزازه من جانب الفريق الآخر، تحت وطأة الحاجة الى استقرار، قد ولّى. واذا كان هناك من يقيم على اعتقاد فحواه ان جلسة الايام الثلاثة النمصرمة، لم تغير في صفحة الواقع السياسي المعلوم حرفا او تضيف فاصلة وان فضيلتها الكبرى هي انها أعطت فرصة للأفرقاء "ليفرّجوا" عن الكثير مما راكموه في أنفسهم حيال بعضهم فان ثمة ولا شك من يجزم من خلال هذا الحدث في ساحة النجمة الى جملة استنتاجات وخلاصات تضيء على المشهد السياسي حاضرا ومستقبلا أبرزها:
- رغم طبقة الصوت العالية التي استخدمتها قوى المعارضة وفي مقدمها نواب "تيار المستقبل"، فانهم انما لجأوا الى ذلك لكي يعوضوا قصورا عن تحقيق أمرين معا:
الاول: اسقاط الحكومة الحالية في المكان الأنسب لاسقاطها.
- الثاني: الاستعداد لمرحلة مقبلة، إن من حيث العناوين والشعارات بعدما صارت على قناعة بضرورة الفصل بين الرهان على تطورات الوضع في سوريا حيث رياح الامور تجري في وجهات مختلفة، وبين مستقبل الوضع في لبنان مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية.
- وفرت الجلسة الأخيرة لمجلس النواب جرعة دعم للحكومة الحالية كانت في أمس الحاجة اليها، وقد تكون وفرت لها فرصة اعادة انتاج نفسها.
- أكدت هذه الجلسات حجم الانقسام الداخلي وصعوبة ايجاد قواسم مشتركة في المرحلة المقبلة، وهذا يعني بشكل او بآخر أن على اللبنانيين ان يعيشوا مجددا لأجل غير مسمى تحت وطأة سجالات حادة و"هجمات" متبادلة.
- أثبتت هذه الجلسات ان زمن "الانقلابات" الكبرى في المواقف والمعادلات وخريطة الاصطفافات السياسية لم يحن بعد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك