أغلب الظن، ان أشد المتفائلين في صفوف الأكثرية لم يتوقعوا ان تفضي جلسات المناقشة النيابية للحكومة الى هذه «النهاية السعيدة» التي أثبتت مرة أخرى ان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي محظوظ بالفعل، أقله حتى الآن. ولعل سير الأحداث منذ دخوله الى السرايا الكبير يوحي بان الرجل متحالف مع «فانوس سحري» ما، يتدخل لإنقاذه كلما حُشر في زاوية ضيقة، بدءا من امتحاني تمويل المحكمة الدولية وبروتوكولها وصولا الى اختبار الثقة النيابية، وما بينهما من محطات، نجح الرجل في تجاوزها بأقل الخسائر الممكنة.
وعلى المنوال ذاته، تبخرت في دقائق قليلة، ثلاثة ايام من الهجاء السياسي اللاذع بحق الحكومة، بعدما أصابت النيران الصديقة للنائب سامي الجميل حلفاءه في 14آذار، على حين غرة، لتفوز الحكومة الميقاتية، في المقابل، بثقة برلمانية غالية، هي بالتأكيد أثمن من تلك التي حازت عليها عند تشكيلها قبل تسعة اشهر، نظرا الى طبيعة الظروف الراهنة، محليا واقليميا.
لكن، وبعيدا عن الحصيلة السياسية المباشرة التي أنعشت الاكثرية الحاكمة، تركت مبارزات المناقشة النيابية، بالسلاح الكلامي الابيض، المزيد من الندوب الطائفية والمذهبية على الجسد اللبناني المترهل، برغم محاولات رئيس مجلس النواب نبيه بري التخفيف من وطأتها، عبر لمساته وطريقة إدارته للجلسات.
وفي قراءته للدلالات، يقول بري لـ«السفير» ان الحدة الطائفية والمذهبية التي رافقت جلسات المناقشة النيابية أظهرت بالعين المجردة اننا لا نعيش في وطن، بل نحن مجموعة طوائف ما تزال مقيمة في مرحلة ما قبل الوطن.
ومع ذلك، يشير بري الى انه برزت وسط هذا المناخ القاتم بعض الإيجابيات التي لا يمكن إغفالها وهي:
- ان جلسات المناقشة شكلت فرصة لحصول حوار بين الكتل والقوى السياسية المتصارعة، بعد قطيعة طويلة. صحيح انه حوار ساخن ومتشنج، ولكنه أتاح للجميع ان يفكروا بصوت مرتفع، وان يستمع كل منهم الى الآخر، ولا أخفي انه من بين اهداف الدعوة الى المناقشة النيابية، فتح قناة حوار بين 8 و14 آذار.
- سُجل إجماع على عدم التورط المسلح بالازمة السورية وبالتالي على رفض تهريب السلاح الى الداخل السوري.
- حصل إقرار من الكل بمرجعية الجيش اللبناني ووجوب ان يؤدي دوره كاملا في ضبط الحدود.
وإذا كانت قوى 14 آذار قد وجهت الى خصومها، رسائل سياسية بالبريد البرلماني السريع، مفادها ان الانتخابات النيابية المقبلة لا يمكن ان تتم بإشراف الحكومة القائمة وانه لا بد من تشكيل حكومة حيادية تتولى إدارة هذا الاستحقاق في ربيع العام 2013، فان بري يؤكد ان الانتخابات ستحصل في موعدها، مشيرا الى ان الحكومة الحالية نالت بعد تسعة أشهر على تشكيلها ثقة متجددة من البرلمان، بحيث بدا وكأنها وُلدت من جديد، الامر الذي منحها زخما إضافيا وأعطاها قوة دفع، كانت بأمس الحاجة إليها في هذا التوقيت.
وفي هذا السياق، يشدد بري على وجوب ان تستفيد حكومة ميقاتي من الهدية الثمينة التي قدمت لها، على طبق من ذهب، كي تعمل على تفعيل إنتاجيتها وتحسين أدائها، آملا في ان تصدر عنها قرارات تكون بمذاق الحلوى التي تناولها الوزراء، بمبادرة من ميقاتي، احتفاء بالثقة المتجددة.
ومع طي صفحة النقاش النيابي، يبدو ان بري يضع على رأس جدول أعماله للمرحلة المقبلة الدفع نحو محاولة إنضاج الظروف الملائمة لاقتراحه المتعلق بإجراء الانتخابات على اساس اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة وفق النسبية، يليها استحداث مجلس الشيوخ فورا، من دون ان يحبطه موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الرافض لهذا الطرح.
وتردد انه من بين الافكار المطروحة لطمأنة زعيم المختارة إناطة رئاسة مجلس الشيوخ المفترض به، الى جانب إشراك مرشحيه للانتخابات النيابية في اللوائح العائدة الى حركة «أمل» و«حزب الله»، بما يحفظ له حصة وازنة، في حال جرى السير بخيار الدائرة الموسعة على قاعدة النسبية.
وحسب المعلومات، فان بري منفتح على تعديل مبادرته لملاقاة الآخرين ـ وعلى رأسهم جنبلاط ـ في منتصف الطريق، إنما مع الحفاظ على الجوهر الأساسي لهذه المبادرة. والأرجح أن «هامش المناورة» الذي وضعه رئيس المجلس لنفسه قد يجعله يقبل بتخفيض سقف طرحه من لبنان دائرة واحدة انتخابيا الى اعتماد صيغة المحافظات، إنما من دون المساس بمبدأ النسبية.
ويؤكد بري ان اقتراحه يتيح إحداث اختراق نوعي في جدار قوانين الانتخاب المتخلفة التي تعيد إنتاج أزمة نظامنا السياسي كل اربع سنوات، لافتا الانتباه الى انه وفي ظل تعذر إلغاء الطائفية السياسية حتى إشعار آخر، فان ما يطرحه يقدم وصفة واقعية للحد من مساوئ الطائفية في موازاة التمسك بالمناصفة وصون حقوق الطوائف وحصصها التمثيلية في مجلس النواب، مستندا في ذلك الى قراءة مرنة لاتفاق الطائف وللمادة 22 من الدستور المتعلقة بانتخاب مجلس نواب وطني، لا طائفي، يليه فورا استحداث مجلس للشيوخ تناط به القضايا الاساسية أو المصيرية.
وينطلق بري في «وصفته» من معادلة تقول بان اعتماد الدوائر الكبرى والمختلطة يؤدي تلقائيا الى امتصاص سموم الأفعى الطائفية، ويمنح المرشحين المنتخبين بُعدا وطنيا، وإن كانوا يترشحون باسم هذه الطائفة او تلك، وفق التوزيع المعتمد على قاعدة المناصفة.
ويشير بري الى انه سيجري المشاورات اللازمة للبحث في إمكان المضي قدما في هذا الطرح، مرفقا بتفسير دستوري للمادة 22، تحت سقف التوافق الوطني.
والى جانب الملف الانتخابي، الذي فُتح على مصراعيه، يواكب رئيس المجلس عن كثب مجريات الملف النفطي الذي تتداخل فيه الحسابات المحلية الضيقة مع تحديات خارجية تمتد من قبرص الى واشنطن مرورا بتل ابيب التي تسعى الى «قضم» مساحات بحرية لبنانية، قد تكون غنية بالثروة النفطية.
ويؤكد بري مضيه بالمساهمة، من موقعه، في معركة حماية حقوق لبنان بالتنسيق التام مع رئيسي الجمهورية والحكومة، مستغربا رد فعل البعض ممن تدخلوا لدى واشنطن للاعتراض على التواصل الحاصل بينه وبين الموفد الاميركي فريدريك هوف بشأن الحدود البحرية، الى جانب التحريض على ما يفعله في هذا الإطار، كرئيس للمجلس، عبر الإيحاء بانه يتجاوز صلاحياته على حساب دور رئيس الحكومة.
ويشدد بري في هذا المجال على ان ما يقوم به لا يتعدى حدود تصحيح الخطيئة التي جرى ارتكابها سابقا من خلال مشروع اتفاق مع قبرص، سمح بتفسيرات حدودية ليست لصالح لبنان، موضحا انه ابلغ المسؤولين القبارصة بصراحة ان مجلس النواب لن يصادق على المشروع قبل تصحيح الغبن اللاحق بلبنان واستعادة حقوقه كاملة.
ويعتبر بري ان خطواته التي تتم بالتشاور المستمر مع ميشال سليمان ونجيب ميقاتي ووزارة الخارجية، إنما تصب في خانة السعي الى التعويض عن التأخير الزمني والقصور التفاوضي في المسألة النفطية، لاسيما واننا نخوض سباقا محموما مع إسرائيل على هذا الصعيد، لافتا انتباه من يهمه الأمر الى ان وظيفة رئيس مجلس النواب ليست إدارة الجلسات النيابية فحسب، بل هي أوسع من ذلك بكثير، سواء دستوريا حيث النص صريح لجهة تأكيد التوازن والتعاون بين السلطات، او واقعيا عندما يقتضي أمر ما تصويب المسار او التصديق على فعل حكومي خاطئ من قبل مجلس النواب نفسه.
تي ،����� ˓تخبط في المسألة السورية بشكل فقدت فيه الوزن .
ج. لكل هذا نرى ان التهديد و الوعيد و العودة الى نغمة الخيار العسكري و تصعيد اللهجة حولها رغم القرار 2043 ، ليست من قبيل التهديد او الخطر الجدي الذي يثير الخشية و الاهتمام الكبير به ، و هو لا يعدو كونه تهويلاً يلجأ اليه للضغط لتحقيق اهداف تبتغيها المنظومة العدوانية في المرحلة الحاضرة و التي تتلخص ب :
1) اعادة التوازن الى المشهد العام المتعلق بسوريا بعد ان رجحت الكفة الدولية لصالحها ، خاصة اثر اعتماد المراقبين العسكريين بما يخدم سياسة السعي السوري للحل السلمي .
2) منع الاستقرار في سوريا و عرقلة استثمار الحكم السوري (ومعه محوره الاقليمي و جبهته الدولية ) النجاح المتحقق في التصدي للعدوان حتى الان ، و التشويش على الانتخابات النيابية المقبلة .
3) السعي لانتاج مشهد يمكن الجبهة المعتدية من التملص من الهزيمة التي لحقت بها خلال سنة و نيف من المواجهة . هزيمة كرست عمليا بالعجز عن تحقيق اهداف العدوان باسقاط النظام و اضطرارهم للاعتراف بقوته و احتضان الاكثرية الشعبية له .
4) شد عصب الجماعات المسلحة و "مجالس المعارضات الفندقية "، لمنع تفككها و اندثارها بعد ان باتت على يقين بان الشعب لن يكون معها في اي عملية سياسية ديمقراطية .
و بالمحصلة نرى ان سوريا و محورها الاقليمي و جبهتها الدولية تتقدم الان مراكمة للنجاح بوجه المعتدين عليها ، الذين يستشيطون غيظا و غضبا من الفشل و ينطلقون في التهديد و الوعيد مقرونا بالعمل الارهابي لانهم كما قلنا سابقا و منذ ان تأكد فشلهم اتخذوا من السباب و الارهاب سلاحاً لا يقدرون على غيره .
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك