تنتهي في آخر كانون الأول من هذه السنة مهلة تسجيل اللبنانيين المغتربين أسماءهم في البعثات الدبلوماسية كي يحق لهم الاقتراع في الانتخابات النيابية المقبلة عام 2013، إذا أقره مجلس الوزراء اليوم
على مدى عقود طويلة تعامل لبنان الرسمي مع المغتربين كحالة اقتصادية واجتماعية، أكثر منها حالة سياسية مؤثرة في القرار اللبناني الداخلي. وتحول الاغتراب خلال الحرب، نافذة سياسية تطل منها الأحزاب والقوى السياسية للوصول الى عواصم القرار، وترك تأثيرات جدية فيها. أبعد من ذلك، لم يكن الاغتراب سوى الدجاجة التي تبيض ذهباً، ما يتعدى تأثير المال الذي يمد المغتربون أهلهم في لبنان به. هكذا تعامل لبنان الرسمي والسياسي مع المتحدرين من أصل لبناني، ومع الأثرياء منهم تحديداً، كما حصل إبان زيارة رجل الأعمال كارلوس سليم الى لبنان.
اليوم يناقش مجلس الوزراء للمرة الأولى جدياً حق اقتراع المغتربين، الذي أقر عام 2008، رغم كمّ من العقبات الفنية والعراقيل الإدارية التي ألقى تقرير وزارة الخارجية المرفوع الى مجلس الوزراء بعض الضوء عليه. وهو يختصر تقارير أرسلتها 85 سفارة وبعثة دبلوماسية وقنصلية عامة وقنصلية في نهاية السنة الماضية، تفند فيها المتطلبات اللوجستية والعراقيل.
لكن الإجماع «الشعري» على حق المغتربين في الاقتراع، يقابَل، عملانياً بتباينات في قراءة واقع الاغتراب وتأثيراته السياسية في لبنان. فما هي خلاصات المتتبعين للواقع الاغترابي، وتحرك القوى السياسية في الدفع نحو الاقتراع أو حتى الإحجام عنه راهناً؟
من الطبيعي أن يكون حق المغتربين في الاقتراع ضرورة وطنية، وعملاً ديموقراطياً أسوة برعايا الدول الغربية والعربية، الذين يقترعون خارج بلادهم، لكن ليس سراً أن المسيحيين بكل أطيافهم كانوا ولا يزالون يؤيدون اقتراع المغتربين، الذي حمل لواءه البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في لقاءاته الاغترابية طوال فترة حبريته، من منطلق وطني، داعياً في الوقت نفسه الى حق اللبنانيين في استعادة جنسيتهم. الأمر الذي ثابر البطريرك مار بشارة بطرس الراعي على تأييده.
سياسياً تنطلق المطالبة باقتراع المغتربين أساساً من فكرة تاريخية مفادها أن الاغتراب في معظمه مسيحي، وأن اقتراع المغتربين قادر على تحقيق التوازن الانتخابي المطلوب، لكن هذه الفكرة لا تزال من الذاكرة التاريخية للمسيحيين، ولم يعد يمكن الجزم تماماً بأن الاغتراب مسيحي صاف. فالهجرة باتت تشمل، ولا سيما خلال الحرب وبعدها، كافة الطوائف الإسلامية التي سافر أبناؤها الى أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة.
وبحسب دوائر مسيحية معنية بالشأن الاغترابي المسيحي، فإن التركيز على حق الاقتراع للمغتربين للإفادة منهم لصالح قوى مسيحية، ليس دقيقاً. أولاً لأن أبناء الشريحة الكبرى من المسيحيين، في الهجرات القديمة والوسطى، لا يحملون الجنسية اللبنانية، وتالياً لا يحق لهم الاقتراع، ولا يمكن تبعاً لذلك أن تحدث تغييرات ديموغرافية جذرية في قوائم الناخبين الحالية، الموزعة بين 38 في المئة للمسيحيين، و62 في المئة للمسلمين. وهنا تطرح أيضاً مشكلة أعمال القنصليات التي حدّت كثيراً من عمليات تسجيل اللبنانيين لأحوالهم الشخصية في الخارج. الأمر تكرر أيضاً في تسجيل حاملي الجنسية اللبنانية أسماءهم لدى السفارات والقنصليات، تمهيداً لعملية الاقتراع.
ثانياً ثمة اعتقاد لدى المسيحيين، ولا سيما منهم قوى 14 آذار، أن الجو الاغترابي المتنامي خلال وجود الجيش السوري في لبنان وبعد خروجه، ينتمي في غالبيته الى خط «ثورة الأرز». الأمر الذي يمكن من خلاله إنقاذ الوضع السياسي. ورغم أن هذه الأجواء قد تكون صحيحة، إلا أن ما يمكن الإضاءة عليه أيضاً، أن العمل الاغترابي لقوى 14 آذار، لا يهدف بطبيعة الحال الى تحسين حصة المسيحيين في المناطق الإسلامية. فالتحالفات الداخلية سواء بين مسيحيي 14 آذار و8 آذار مع حلفائهم، هي التي تسهم في تحقيق الفوز لمرشحي هذا الطرف أو ذاك، في الدوائر المختلطة. ما يعني أن المعركة على المغتربين ستكون أيضاً مسيحية داخلية، لاجتذاب الناخبين المغتربين في دوائر الثقل المسيحي الخالص، أي زغرتا والكورة والمتن وكسروان والبترون وجبيل. وليس في اعتقاد أيّ طرف مسيحي أنه يمكن أن يُحدث انقلاباً جذرياً في القاع مثلاً، بفضل أصوات المغتربين، أو أن يبدّل في موازين القوى في طرابلس أو عكار أو بعبدا. وهذا من شأنه أن يحوّل المغتربين وقوداً في المعركة الداخلية، وليس أدل على ذلك من الحملات الاغترابية التي بدأت تعمل عليها ماكينات الأحزاب المسيحية في الخارج، معززة بزيارات وفود نيابية، تجييشاً لجمهورها قبل استحقاق عام 2013.
مع العلم أن هذا الموضوع ليس مطروحاً أمام الطوائف الإسلامية، فتيار المستقبل لديه فائض أصوات في مناطق ثقله الانتخابي، وعادة يستقدم ناخبيه بالطائرات من الخارج. أما الطائفة الشيعية، فلديها هموم أخرى تتعلق بكيفية ممارسة أبنائها حقهم الانتخابي، بعيداً عن الضغوط في الدول العربية والغربية على السواء، أكبر من انبعاث تيار شيعي ثالث من رحم الاغتراب.
وكذلك فإن الهروب الى الأمام في تبني اقتراع المغتربين والدفاع عنه كحق مشروع، يهدف أيضاً الى التعمية على فشل المسيحيين في الاتفاق على قانون انتخابي، يجعلهم خارج إطار تأثير حلفائهم السياسيين، الذين يختارون لهم نصف نوابهم على الأقل، أو حتى في التأثير الفعلي الذي يمكّنهم من تحسين نوعية نوابهم المنضوين تحت مظلة حلفائهم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك