في شهر تشرين الثاني من العام 1948 قُتل عم والدي في مجزرة اُطلق عليها أيضاً "مجزرة حولا". وحولا هذه غير بلدة الحولا السورية التي شهدت مجزرة قبل نحو اسبوع. انها قرية لبنانية على الحدود مع اسرائيل، أقدمت ميليشيا الهاغاناه الصهيونية على ارتكاب مجزرة فيها أودت بحياة تسعين رجلاً من أبناء البلدة، وكان عمي جواد الأمين بحسب الروايات أول رجال البلدة ممن أعدمتهم الهاغاناه في ذلك الوقت.
ويبدو ان المجزرة كانت اجراءً عقابياً نفذته الهاغاناه بحق البلدة بسبب تعاون أهلها مع جنود جيش الانقاذ العربي الذين أوفدتهم دولهم لمساعدة الفلسطينيين خلال ما نسميه نحن النكبة، وما يسميه الاسرائيليون "حرب التحرير".
كان لهذه المجزرة، مجزرة حولا، (التي يجب ان نُكرر مرة أخرى انها حولا اللبنانية، وليست الحولا السورية، ذاك ان "أل" التعريف لا تكفي للتمييز بينهما بعدما جمعت البلدتين السورية واللبنانية مجزرة في كل منهما يفصل بينهما 64 عاماً من الشقاء)، كان لها وظيفة دائمة تمثلت بتغذية وعينا، نحن أحفادها.
ولدت انا بعد أقل من 20 عاماً بقليل من وقوع المجزرة، وأنا بهذا المعنى حفيد المجزرة ولست أبنها. وحولا القرية المحاذية لقريتي لم تكف بعد كل هذه العقود عن كونها البلدة التي حدثت فيها تلك المجزرة. كنا أطفالاً وكانت تلك القرية التي في مقابل قريتنا قرية المجزرة، وصرنا مراهقين وبقيت كذلك، وهي الى اليوم في مخيلتي بلدة المجزرة.
ثم ان حولا التي قتل فيها عم والدي، شكلت لي حدساً داخلياً صامتاً يحرك في داخلي رغبة خجولة في التخيل وفي استدعاء صور مجزرة حدثت قبل ولادتي بعشرين عاماً.
للضحايا صور في مخيلتي، وللجناة أيضاً. مناحيم بيغن الذي نقلت الروايات انه كان على رأس مجموعة الهاغاناه التي هاجمت القرية، والذي صار رئيساً للحكومة الاسرائيلية أثناء الاجتياح الاسرائيلي الأول للبنان في العام 1978، بيني وبينه حكاية المجزرة التي تُلح علي كلما شاهدت رجلاً من بلدة حولا. والغريب في الأمر أنني لاحقاً استبعدت احتمال مشاركة بيغن في الإغارة على حولا، ذاك ان "بيني موريس"، المؤرخ الاسرائيلي الذي أعاد كتابة حكاية الترانسفير الذي ارتكبه الاسرائيليون، ذكر ان مجزرة حولا ارتكبتها ميليشيا الهاغاناه "الصهيونية اليسارية"، فيما كان بيغن على رأس ميليشيا "الأرغون" اليمينية، لكن ذلك لم يُمكنني من ازاحة وجه بيغن عن حكايتي الداخلية عن المجزرة.
ثم ان حولا العام 1948 بقيت كذلك في كل مراحلها. البلدة المجزرة. في السبعينات والثمانينات حاولنا تسميتها موسكو لأنها صارت بلدة الشيوعيين الأولى في المنطقة، لكننا لم ننجح، ذاك ان شيوعيتها حدث براني عابر فيما المجزرة مقيمة في مكان أعمق في نفوسنا.
جاءت ميليشيا الهاغاناه وقتلت رجال البلدة. الطريق الذي عبره عناصر الميليشيا من المنارة الى البلدة محفورة في ذاكرتي. كانوا رجالاً بلا وجوه. وحده بيغن من كشف عن وجهه. ارتدوا ثياباً عربية ليعتقد سكان القرية انهم جنود جيش الانقاذ. اعدموا رجال البلدة برشاشات اوتوماتيكية صغيرة وسوداء. لم يَصدر عن الرجال أصوات. ليس في الحكاية تفاصيل عن ألم أصاب الضحايا، اذ انها وصلتنا على نحو تقني. أي ان الهاغاناه قتلت الرجال، وتُرك لكل واحد منا ان يُنشئ حكايته الخاصة والداخلية عما أصاب الرجال قبل اعدامهم.
في العام 1978 وكنت لم أبلغ الثانية عشر من عمري، دخل الجيش الاسرائيلي الى قريتي وكان بيغن رئيس حكومة اسرائيل، وكانت المرة الأولى التي أعاين فيها عن مسافة مئآت قليلة من الأمتار دبابة اسرائيلية كانت قادمة باتجاه منزلنا. واذا كان للرعب اسم آخر او وصف فهو ذاك الذي أصابني في حينها. أذكر أنني نزلت مسرعاً على درج مفضٍ الى طابق سفلي من منزلنا، ووضعت يديَ على رأسي بعد ان لاح لي وجه قاتل جدي مناحيم بيغن.
هل يمكن لنا ان نتصور أحفاد مجزرة الحولا السورية بعد عقود من الزمن؟ ترى وجه من سيلوح لهم في حينها؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك