فرضت العملية العسكرية التركية في الشمال السوري منذ مساء الأحد الماضي إعادة تقويم سريعة للظروف التي قادت اليها والرسائل التي أرادت انقرة توجيهها في أكثر من اتجاه لتبرير ما قامت به. فالإجماع الدولي على رفضها ليس شاملاً، لأنّ بعضهم رسم لها سقوفاً محدّدة. فمعظمهم لم يرد ما حصل، لكن أحداً لم ينجح في منعها أو تأجيلها. لماذا؟
خلت التقارير الديبلوماسية التي نقلت من أنقرة ومن أكثر من عاصمة غربية وعربية، من أي اشارة الى أنّ العملية العسكرية التي تقوم بها تركيا تشكل مفاجأة ديبلوماسية أو عسكرية، إذ لم يتأخر الأتراك بابلاغ جميع الأطراف من الحلفاء والخصوم بما أرادوه منها، وأسرفوا في شرح الأسباب الموجبة التي دفعتهم اليها والظروف التي أملتها قبل ان تحدد ساعة الصفر للعملية العسكرية التي جندت لها اكثر من 3 ألوية عسكرية من القوات المدرعة ووحدات النخبة والتغطية الشاملة للأسلحة الأخرى.
وفي انتظار ما ستؤول اليه العملية العسكرية، كشف تقرير ديبلوماسي من انقرة أنها أبلغت الى الجهات الدولية والإقليمية الموجودة على الساحة السورية، مباشرة أو بالواسطة، ان العملية لن تطول لأكثر من اسبوع. فهي مطمئنّة الى حجم القوة العسكرية التي كلفت المهمة والقدرات التي جنّدت لها دون أن تحدّد النطاق الجغرافي لها. وهو ما أدى الى رسم أكثر من سيناريو أقصاه ما حدّدته تركيا منذ سنوات بأنها تسعى الى إقامة الشريط الآمن بعمق 30 كيلومتراً وبطول يمتد من حدود سيطرتها الحالية التي انتهت اليها عملية «درع الفرات» قبالة مدينة جرابلس وحتى مثلث الحدود السورية - العراقية - التركية.
منذ 3 سنوات ارادت تركيا ان تقوم بالعملية فهي تخشى تلاحماً كردياً يجمع الكيانات المتفرقة للاكراد الذين تصر على اعتبارهم جميعهم من وحدات «حزب العمال الكردستاني» المحظور لديها، والذي وضع على لائحة الإرهاب الدولية، للتعمية على ما تريده من سيطرة شاملة على المنطقة. ففي الداخل التركي حوالى 16 مليون كردي من أصل 81 مليوناً، وفي سوريا أكثر من مليونين ونصف المليون بقليل، وفي العراق 5 ملايين الى 8 ملايين آخرين ينتشرون داخل الحدود الإيرانية، وأنّ ايّ تواصل محتمل في ما بينهم يهدد امن تركيا ودول المنطقة.
على هذه الخلفيات، وبالتلازم مع العملية العسكرية، اعلنت انقرة خططها لإعادة توطين النازحين السوريين على اراضيها ونقلهم الى المنطقة الآمنة، بديلاً مما تهدّد به الدول الأوروبية باحياء موجات النزوح في اتجاه حدودهم وشواطئهم، ولوقف النزف المالي والاقتصادي التركي بعد تقديراتها لكلفة خدمة النازحين على أراضيها بما يزيد على 40 مليار دولار اميركي. فقد سبق للاتراك ان استخدموا ملف النازحين بطريقة مثالية تجاوزت التجربتين الأردنية واللبنانية وبعض الدول البعيدة عن الخارطة السورية التي استقبلت موجات نزوح محدودة، فجنت تركيا وحدها من خلال هذه الاستراتيجية مليارات الدولارات التي حلمت بها دول الجوار السوري دون طائل.
واستكمالاً للخطط السابقة، ظهر جلياً أن انقرة ترغب في توطين السوريين السنة العرب وأبناء العشائر على أراضيها في الشريط السوري الآمن ليشكلوا دروعاً بشرية تفصل بين اكراد البلدين على طول الحدود المستهدفة بالعملية. وبناء على ما تقدم يكشف تقرير استخباري آخر كيفية اختيار انقرة ساعة الصفر، إذ ربطت بين الموعد الذي انطلقت فيه العملية، وحال التردد في العواصم المتعاملة مع الملف السوري، وفقاً لخريطة المواقف الآتية:
- القرار الأميركي بالانسحاب من شمال سوريا قبل عام تقريباً، واخفاق واشنطن في توفير الظروف التي تسمح بملء الفراغ المحتمل بوحدات من دول الحلف الدولي، ولاسيّما الأوروبية منها، وهو ما رفضته فرنسا وبريطانيا وهولندا التي اقتصر وجودها على وحدات رمزية لا يمكنها القيام بمهمة ضبط الوضع الأمني في المنطقة.
- غياب التأثير العربي والخليجي في المشهد السوري بعد انسحاب الأردن والإمارات العربية من الحلف الدولي وانشغال ابو ظبي والرياض في حرب اليمن قبل 3 سنوات، فيما نقلت قطر اصطفافها الى جانب الأتراك منذ عام بعد القطيعة مع جيرانها الخليجيين.
- اصرار الروس والإيرانيين على ملء أي فراغ في المنطقة بوحدات من الجيش السوري النظامي. وهو ما سعى اليه الطرفان دون جدوى. فرغم الوساطة الروسية تردد الأكراد في نسج التفاهمات مع دمشق وحال شريط انتشار «داعش» بين مناطق الطرفين دون اتمام العملية منذ عام تقريباً. كما منعتهم واشنطن من احياء المفاوضات مع السوريين التي استؤنفت بعد قضائهم على «داعش» وهو ما ادى الى فقدان الثقة بينهما.
وتأسيساً على هذه المعطيات استطاعت انقرة أن تفرض العملية العسكرية في توقيتها وشكلها وأهدافها. فبعد التخلي الأميركي عن الأكراد قال تقرير ديبلوماسي أنّ انقرة تعهدت قبل فترة امام وزير الدفاع الأميركي ورئيس الأركان بضمان المصالح الأميركية بعد السيطرة على المنطقة. وهو ما فسرته واشنطن وسيلة لاجتذابها الى حلف «الناتو» وابعادها عن مسار استانة.
وعليه بنيت نظرية ديبلوماسية أخرى تقول إنّ العملية التركية موجهة الى حلفائها الجدد في موسكو وطهران قبل واشنطن، وهو ما تبرره المواقف الرافضة التي عبّرت عنها العاصمتان في الساعات الماضية، خصوصاً إثر فشل الوساطة الروسية للتفاهم بين الأكراد والنظام. فقد جاء جواب دمشق عبر بيان نائب وزير خارجيتها فيصل المقداد مخيباً للآمال، إذ اعتبر الأكراد عملاء للقوى الأجنبية ولا تريد سوريا اي مفاوضات معهم.
وبناءً على ما تقدم، يبدو واضحاً أنّ انقرة تسعى بقوة الى حجز موقع متقدم في حلفها الثلاثي الجديد مع طهران وموسكو، وهي ماضية في عمليتها لتستولي على موقع متقدم في ما بينهما دون ان تسوء علاقتها بواشنطن، وهو ما يمكّنها لاحقاً من الحضور في مفاوضات تقاسم المغانم والنفوذ في سوريا متى بدأت.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك