الغموض سيّد الموقف في التطوّرات السياسيّة في لبنان هذه الفترة. لا أحد يدلي برأي، ولا أحد على معرفة بما يُصاغ خارج الحدود، لربّما هي المرّة الأولى التي يعترف فيها اللبنانيّون وبشكلٍ واضح، بخروج اللعبة السياسيّة من بين أيديهم، لتستقرّ بين أيدي اللاعبين الدّوليّين والإقليميّين.
رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة الحكومة، وحاكميّة مصرف لبنان وبعض الوزارات، تُدرَس أسماء المقبلين عليها في موازاة التسويات التي انتهت مرحلة مفاوضاتها ودخل أطرافها في مرحلة إخراجها تحضيراً للتنفيذ. المعلن منها اتّفاق إيرانيّ سعوديّ، يُمنّي البعض نفسه بانعكاسه تأييداً للوزير سليمان فرنجيّة، والبعض الآخر بانعكاسه تأييداً لانتخاب النائب ميشال معوّض، ولكن الأمور وبشكل واضح، راحت إلى مكانٍ آخر في الأسماء والانتماءات، لأنّالاتّفاق المذكور، لا يمكن أن تتخطى حدوده الإطار الضيّق بين إيران والسعوديّة، والأزمة اليمنيّة في حدّه الأقصى، إذ إنّه ليس من المنطقيّ أن يسمح الأميريكيّ لمفاعيل اتّفاق لم "يوافق هو عليه أصلاً"، أن تنهي دوره في المنطقة ككلّ... الأمر مدعاة للسخريّة إذا ما صدّقه بعض اللبنانيّين!
في لبنان، اختلفت المقاربة الأميريكيّة عن المقاربات السّابقة، إذ قد صار بلداً نفطيّاً مؤثّراً في الاستراتيجيّة الأميريكيّة القائمة عبر الإمساك بمفاتيح النفط العالميّة، بالإضافة إلى سُبُل تصديرها ونقلها، ولبنان يملك كلّ تلك المقوّمات من خلال حجم الثروة التي يملكها، وموقعه على خطّ نقلٍ وتصدير، بين مناطق تملك فائضاً من الموادّ النفطيّة الخام من جهة، ومناطق محتاجة إلى هذا المخزون من جهةٍ ثانية.
الأميريكيّون يتشدّدون في لبنان، والطّبقة التي يريدون استبدالها من السياسيّين لدوافع استراتيجيّة،مستخدمين فساد تلك المنظومة لاقتلاعها، من هنا أتى القرار الأميريكيّ بضورة مثول رياض سلامة أمام القضاء الأوروبيّ، وما أدراك بالمعلومات التي أدلى بها سلامة، وما سيدلي بها خلال الجلسات القادمة في فرنسا أم في لبنان...استبدال المنظومة عند الأميريكيين، يتعلّق بتبديل استراتيجيّتهم السياسيّة هنا، ليظهروا بدور المنقذ من سبب فقر وانهيار لبنان، هكذا فعلوا في العراق، وفي مصر، وفي ليبيا، وفي تونس، وهكذا حاولوا في سوريا. في لبنان، يريد الأميركيون قراراً سياسيّاً مؤيّداًأو غير معاديلهم بالحدّ الأدنى، مروراً بصورة النظام والصّيغة والاقتصاد، وصولاً إلى انفتاحٍ لبنانيٍّ على الخليج والغرب، ويشكّل هذا الانفتاح ضرورةً لا غنى عنها، في العلاقات التجاريّة النفطيّة العتيدة.
إنّ النفوذ الأميريكيّ في لبنان لا يمكن لأحدٍ أن يواجهه بتسويات من هنا ومن هناك، ولا يمكن لأحدٍ تخطّيه، والانهيار الماليّ الحاصل بدفع مباشرٍ ومدروس ومتابَعٍ منه، أكبر دليل على ذلك، ومن لم يجرؤ على استنقاذ الوضع فيه من الدّول الإقليميّة من دون موافقة الأميريكيّ، لن يجرؤ أيضاً على اجتراح تسوية من دونه، حتّى أنّ التّسوية الإيرانيّة السعوديّة تلفّها علامات استفهام كثيرةحول موافقة الأميريكيّ فعلاً عليها، ولا سيّما أنّ الرئيس الأميريكيّ كان قد أفرج منذ أسابيع، عن 10 مليار دولار مجمّدة للإيرانيّين في البنوك الأميريكيّة، لتقوم الحكومة العراقيّة بدور الوسيط في استلامها أو "حسن التصرّف" بها.
يبقى التوقيت: متى تنتهي الأزمة ؟ وما التوقيت الأميركيّ للتسوية؟
بعد الاتّفاق الإيرانيّ السعوديّ، فقدَ الأميريكيّون والفرنسيّون ترَفَ الوقت الذي بات يلعب ضدّهم، من أجل ذلك باتت الطّبخة الرئاسيّة على نارٍ حامية تماشياً مع مفاعيل الاتّفاق المذكور، والذي سوف يمهّد طريق التسوية في لحظة توافق إقليميّة بعد اطمئنان السعوديّ لأزمة اليمن، وحفاظ الإيرانيّ على كلمته في العراق، لينعكس في لبنان رئيساً وتركيبةً سياسيّةً يدوران خارج الفلك التقليديّ للمنظومة، وهذا ما دفع الرئيس برّي إلى التلميح لأحد ضيوفه منذ أيّام،بضرورة انتخاب رئيسٍ خلال أسابيع قليلة، " وإلّا خرجت اللعبة من أيدي الجميع" بحسب تعبيره.
الربيع اللبنانيّ حافل بالمفاجآت، وإصرارٌ أميريكيّ بدأ يتظهّر حول خيوط التسوية، وتنافس عربيّ في الهمس، لاستضافةٍ سياسيّة قصيرة للسياسيّين، ليوافقوا على الصيغة اللبنانيّة الجديدة لا ليناقشوها، وعلى إصلاحات دستوريّة، وعلى اسم رئيس الجمهوريّة، ورئيس الحكومة، وعلى الوزراء الذين سيتولّون بعض الوزارات ذات الحساسيّة الأمنيّة والاقتصاديّة، كخطوةٍ لا بدّ منها تحضيراً للخروج من الوضع الحاليّ، والذي لم يعد توقيته بعيداً، فأوروبا وأميريكا مستعجلتان استخراج الغاز الذي تحتاجان إليه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك