كتب المحامي والأستاذ الجامعي إدغار قبوات في موقع mtv:
تطرح الازمات المتوالية على بلادنا أسئلة محورية تتدرج بين الازمات الوجودية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية والصحية، وما ينشأ عنها من إشكاليات تدور حول الهوية الوطنية، والقيم الناظمة للاجتماع السياسي والوطني، وبنية الدولة واليات الحوكمة والمقاربات الواجب اعتمادها من اجل تشخيص طبيعتها وسبل التعاطي معها.
نحن لسنا امام إشكالات سياسية ومالية واجتماعية حادثة او عابرة، نحن امام أزمات بنيوية تطال ماهية الكيان اللبناني، ومفارقاته القاتلة، وما نشا عنها من نزاعات دورية طالت التماسك الوطني وقدرة الدولة على معالجة الملفات الحكومية على تنوع موضوعاتها، واحالت البلاد الى استحالات وصفتها مفاهيم " الجمهورية المتسكعة " و " الكيان الوطني المستحيل ". ان الانفجار الكارثي في الرابع من اب ٢٠٢٠ ومدلولاته الانقلابية والارهابية تختصر معاناة بلادنا التي تعيش منذ ٧ عقود متوالية أزمات سيادية احالت البلاد الى استحالات مميتة جعلت من الدولة اللبنانية مبنى صوريا تتآكله صراعات النفوذ على تنوع تصريفاتها الداخلية والخارجية. ان الخروج على هذا الواقع بمفارقاته القاتلة قد اصبح من الأولويات التي تملي علينا انعطافات أساسية في كل جوانب الحياة السياسية والعامة وعلى مستوى الخيارات الاستراتيجية.
غير ان التجربة السياسية اثبتت ان صراعات سياسية وطائفية دامية إعترت الحقبة الزمنية التي تلت إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وانسحبت إلى ما بعد الميثاق الوطني، وصولا إلى عام 1989، حيث أبرم إتفاق الطائف الذي، بالرغم من إنتهاء الحرب، كرّس النظام القديم مع بعض التعديلات الطفيفة عام 1990، لا سيما لناحية وضع مقدمة للدستور اللبناني وخصوصا الفقرة (ي) منه، لتعكس المبادىء الشفهية لنظام 1943، ناهيك عن إجراء بعض الإصلاحات الوازنة، كإنشاء مجلس دستوري ومجلس إقتصادي وإجتماعي. فالتوازن الطائفي الذي قامت عليه الدولة اللبنانية منذ ذلك الحين، بدا غير قادر على ضمان العيش المشترك بين الطوائف التي شكّلت بنية الدولة التحتية وتقاسمت سلطتها، فبدأ التناحر السياسي، الطائفي وحتى العسكري بين المكونات السياسية للمجتمع اللبناني، ففقدت الدولة إستقلاليتها إزاء الطوائف والميليشيات المتصارعة على إكتساب المزيد من الصلاحيات الدستورية والمغانم السياسية، مستقوية بحلفاء الخارج، فأصبحت الدولة في حالة تبعية مطلقة لها، ممّا ادّى إلى شلّ مؤسساتها، وجعلها عاجزة عن القيام بوظائفها.
إن ازمة لبنان الحالية هي اولا، ازمة نظام اثبت فشله عشية مئويّته الأولى، وذلك لأسباب عدّة وعلى رأسها ازمة ثقة، وثقافة، وهوية بين المكوّنات المجتمعية كافة، ادّت إلى إستحداث نتائج وخيمة على صعيد التصدّع المجتمعي. فنظام دولة لبنان الكبير الذي رسّخ بميثاق 1943 وبعد ذلك بدستور الطائف، اراد ضمان تمثيل جميع اللبنانيين بشكل متساو في الحياة السياسية، الا انه فشل بشكل لا منتاهي. فشل على صعيد غياب التمثيل الصحيح في السلطة، وعلى صعيد تفرّد مكوّن من المكوّنات السياسية بالخيارات السياسية العابرة للحدود، فضلا عن فشل مريع على مستوى فعالية اجهزة الدولة المركزية، لا سيما الأمنية والرقابية منها، وعلى صعيد العدالة في المشاركة في الإلتزامات المالية المموّلة لموازنة الدولة. فشل على صعيد الإنماء المتوازن، وعلى صعيد السياسات المركزية العامة في تأمين الصحة العامة، وفشل في التنظيم الإداري المحلي إنطلاقا من خلفيّات دينيّة وثقافيّة، واخيراً الفشل في القدرة على ضبط الحدود والمنافذ البرية والبحرية والجوية...
ان الخروج من المطبات القاتلة لبعض الثقافات السياسية المتزامنة وغيرالمتداخلة التي تتعدّى يوميا على سيادة لبنان، يفترض تعديلات سياسية في بنية النظام السياسي من اجل حماية الخيار الديموقراطي والليبرالي، على مستوى بنية فدرالية مبنية على آليات الحوكمة على مستوى حكم اتحادي ومحلي وخيارات وطنية ومدنية وسياسية جامعة لجهة المساواة في الحقوق والواجبات بين كل المواطنين على تنوع انتماءاتهم، والاعتراف بالتعددية بكل مندرجاتها، وتكريس الحقوق والحريات الفردية (لجهة حرية التفكير والاعتقاد والتجمع واختيارالنهج الحياتي)، وحياد الدولة لجهة حماية حرية الاعتقاد واستقلالية الحيز العام وحياديته.
إننا ميثاقيّون، لا صيغيّون. إننا مع ميثاق 1943 وضد صيغة 1943. إننا مع "الميثاق"، لأنه توافق على العيش المسيحي- الإسلامي المشترك في دولة لبنان الحرّة السيدة المستقلة في حدودها المعترف بها دوليا. وهذا العيش المشترك هو "الثابت". ونحن، بطبعنا وإيماننا المنفتح والمحاور، مصرّون عليه وعلى تعزيزه وتعميقه والدفاع عنه وإزالة كل العوائق من سبيله. إننا نؤمن به قيمة إنسانية كبرى لا مثيل لها في اي مكان آخر في العالم، ودليلا حضاريا ساطعا، ونورا يهتدى به. إننا ضد "صيغة 1943"، اي الشكل التطبيقي الدستوري- القانوني - السياسي للميثاق، وهي "المتحوّل". هذه "الصيغة" خدمت الميثاق لفترة معيّنة على الرغم من رفض المسلمين لها منذ الإستقلال، ممّا جعلها "عمليا" خطرا على الميثاق نفسه.
لهذه الأسباب، إن طرح النظام الفدرالي المقترن بالحياد وبالفدرالية الشخصية القائمة اصلا، والمقتبس من النظام البلجيكي، والبوسني، والأثيوبي والعراقي (على سبيل التعداد لا الحصر) بشكل اساسي، يعتبر النظام الأمثل والذي من شأنه تأمين الديمومة الثقافية للطوائف اللبنانية، والتي تشكل فعلا مصدر غنى في هذا الشرق، كما من شأنه تأمين إستمرارية العيش المشترك المنشود، والذي عبّرعنه اساسا الآباء المؤسسون عام 1920. ان مقاربة العلاقات مع المحيط الإقليمي المتفجر، مبنيّة على قاعدة الحياد عن نزاعات محاورالنفوذ فيها، واحترام حق كل شعب من شعوب المنطقة في تحديد أصول التسوية الديموقراطية للنزاعات فيه على قواعد وفاقية، وخارجا عن الاخطار الوجودية التي تستحثها الحركات الأصولية، وانظمتها الشمولية والتمييزية والمنافية لابسط مبادئ حقوق الانسان.
رفعا للبس السائد في الأوساط السياسية، وبشكل مختصر، لا بدّ بداية من تحديد مفهوم الفدرالية اولاً والإنتقال بعد ذلك إلى تسليط الضوء على إزدواجية الهوية اللبنانية النابعة عن خيارات سياسية متناقضة، وصولاً إلى تحديد مداميك المشروع السياسي والأسباب الموجبة لإعتماده في لبنان.
وهذا ما سنقوم به في سلسلة مقالات...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك