تشكّل مسألة ربط العملة اللبنانية بالدولار الأميركي إحدى العلامات على تصميم لبنان على الحفاظ على الاستقرار النقدي، وسط تحذيرات لقادة سياسيين من أزمة اقتصادية، وهو ما أطلق شائعات دفعت المصرف المركزي إلى تقديم تطمينات متكررة بشأن متانة الربط.
ويقول مصرفيون ومحللون إن تركيز السلطات المالية اللبنانية على أسعار الفائدة له تكلفته ومخاطر قد تظهر مع مرور الوقت.
لكن أسعار الفائدة المرتفعة التي وضعها المصرف المركزي لضمان استمرار تدفق الأموال للبنوك، تعتبر مخاطر متزايدة داخل النظام المالي وتضغط على اقتصاد متباطئ بالفعل. ويأتي كل ذلك بينما تتجدد الضبابية السياسية، مع استمرار البلاد دون حكومة لما يقرب من ثلاثة أشهر.
ومع انخفاض النمو، وتضرر المصادر التقليدية للنقد الأجنبي، وهي السياحة والعقارات والاستثمار الأجنبي، جرّاء سنوات من التوتر الإقليمي، يعتمد لبنان الآن على مليارات الدولارات التي يودعها اللبنانيون المغتربون في البنوك المحلية، التي تموّل المديونية العامة الضخمة والعجز في موازنة الحكومة.
وهناك اتفاق عريض على أن لبنان، ثالث أكثر الدول مديونية في العالم، يحتاج إلى إصلاح مالي عاجل لمساعدة الاقتصاد وتقليص الاعتماد على عمليات البنك المركزي، التي يصفها صندوق النقد الدولي بأنها غير تقليدية.
ومنذ إجراء الانتخابات البرلمانية في مايو الماضي، أخفق السياسيون في تشكيل حكومة يمكنها أن تتغلب على العجز وتعزز الثقة في النظام المالي وتطلق تمويلات من المانحين بمليارات الدولارات.
ونسبت وكالة رويترز لوزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال رائد خوري الشهر الماضي، إن أولوية المصرف المركزي حاليا تتمثل في رفع أسعار الفائدة لجلب أموال بالعملة الأجنبية إلى لبنان، حتى تتمكّن البلاد من الحفاظ على استقرار الليرة، الذي يأتي في مقدمة الأولويات. ووضح أن هذا هو السبب وراء الاستقرار النقدي والثقة في لبنان، لكن تلك العوامل لم تأت بتكلفة منخفضة، وإنما كانت التكلفة على الاقتصاد مرتفعة.
ويشعر اللبنانيون العاديون بتأثيرات ضعف الاقتصاد، فالإقراض منخفض، ونشاط الشركات يتراجع مع هبوط الأسعار في القطاع العقاري، الذي كان في السابق أحد دعائم الاقتصاد.
ويؤكد صندوق النقد الدولي أنّ معدلات النمو السنوي هبطت إلى ما بين 1 إلى 2 بالمئة، من 8 إلى 10 بالمئة في السنوات الأربع التي سبقت اندلاع الحرب في سوريا، وأن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت أكثر من 150 بالمئة.
والمرة السابقة التي رفع فيها مصرف لبنان المركزي أسعار الفائدة كانت في نهاية 2017، حينما زادها بمقدار نقطتين مئويتين ردا على الأزمة التي فجّرتها استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، والتي عدل عنها في وقت لاحق.
وبدأت البنوك منذ شهرين تتصل بعملاء وتعرض عليهم تحويل ما لديهم من عملة صعبة إلى ودائع بالليرة لأجل خمس سنوات بفائدة تصل إلى 15 بالمئة.
وهناك عروض أخرى، من بينها فائدة عشرة بالمئة على ودائع لأجل عام، و11 بالمئة لأجل عامين، على أن يتراوح الحد الأدنى للودائع بين 20 ألفا و50 ألف دولار.
وبلغ المتوسط المرجّح لسعر الفائدة على الودائع بالليرة 6.7 بالمئة في يونيو الماضي، وهو أعلى مستوى منذ ديسمبر 2009. وبلغ المتوسط المرجّح لسعر الفائدة على الودائع الدولارية 4.1 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ فبراير 2008.
وقال مروان بركات كبير الخبراء الاقتصاديين لدى بنك عودة إنه منذ أزمة الحريري، زاد متوسط أجل الودائع بالليرة من 40 يوما في أكتوبر الماضي إلى 120 يوما الآن.
وتقوم البنوك بتحويل أموال العملاء إلى العملة المحلية، وتُودع الدولارات لدى المصرف المركزي، الذي يجري بدوره عمليات معقدة ليعطي البنوك في وقت لاحق عوائد أكثر جاذبية.
وقال مروان ميخائيل رئيس البحوث لدى بلوم إنفست "هناك الآن منافسة حادة بين البنوك لجذب ودائع ويحاول المصرف المركزي امتصاص كل الدولارات في السوق".
ويرى البعض أن الاعتماد المتزايد على الودائع المصرفية لتمويل الحكومة يجعل لبنان ومصارفه أكثر تأثرا بالصدمات السياسية.
وقال توفيق كسبار، وهو خبير اقتصادي ومستشار سابق بصندوق النقد الدولي، "أصبح الوضع في البنوك هشا، وأكثر تأثرا بوضع القطاع العام". وأوضح أن نصف الميزانية العامة للبنوك هي ودائع لدى المصرف المركزي. وقال إن "ثلثي ميزانياتها قروض للقطاع العام، وهو تحديدا المصرف المركزي والحكومة، كما تظهر أذون الخزانة".
وكتب كسبار تقريرا العام الماضي قال فيه إن سياسة المصرف المركزي في عرض أسعار فائدة مرتفعة على الدولارات أسفرت عن "خسائر متزايدة" له و"صافي احتياطيات سلبي".
وقال كسبار لرويترز إن حجم تلك الخسائر لم يُعلن عنه "حيث لم ينشر المصرف المركزي بيانات أرباحه وخسائره منذ 2002".
وفي تحرك غير معتاد، رد مصرف لبنان المركزي على التقرير، وقال إن سياسته لأسعار الفائدة متماشية مع حجم المخاطر في البلاد. وفي ما يتعلق بعدم نشر تقاريره السنوية، قال المصرف إنه مطلوب منه سنويا رفع تقرير بميزانيته العمومية وحسابات الأرباح والخسائر إلى وزارة المالية، مضيفا أنه يواصل تحقيق أرباح كبيرة ومستدامة.
وظهر تأثر لبنان بالصدمات السياسية في نوفمبر الماضي، حينما استقال الحريري على نحو غير متوقع أثناء زيارة للسعودية، وهو ما أسفر عن تدفق مؤقت لأموال إلى خارج البلاد.
وحُلّت الأزمة في غضون أسابيع، حينما سحب الحريري الاستقالة، لكن ربط الليرة بالدولار تعرّض لضغوط. وبلغت الأصول الأجنبية للمركزي مع استبعاد الذهب، 44.4 مليار دولار في نهاية يوليو، متعافية مما فقدته دفاعا عن الليرة.
وارتفعت تكلفة الاقتراض على اللبنانيين العاديين أيضا منذ بدأ المركزي، الذي يقلقه حجم السيولة بالليرة الداخلة إلى السوق، في أكتوبر في النكوص عن برامج الحوافز والدعم، التي استخدمها لسنوات لدعم الإقراض المصرفي للإسكان وقطاعات اقتصادية أخرى.
ورغم ترحيبه بالجهود التي يبذلها المصرف المركزي للحفاظ على تدفقات الودائع في مواجهة ضغوط كثيرة على البلاد، قال صندوق النقد الدولي إن مسار ديون لبنان لا يمكن الاستمرار فيه، وهناك حاجة ملحّة لإصلاح مالي كبير.
ويتساءل كثيرون في لبنان لماذا لا يُنحّي السياسيون خلافاتهم جانبا لوضع الاقتصاد على أسس أكثر متانة، حيث يرجح أن النظام المصرفي سيصل في نهاية المطاف إلى أزمة مالية إذا استمرت الأمور على هذا النحو.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك