(ريمون مارون - مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات)
في زمن تتكاثر فيه الأزمات وتتآكل فيه أركان الدولة، يصبح القرار السياسي أكثر من مجرد اختيار أو موقف، بل هو علامة وجودية تعكس مدى تماسك الدولة وتمسكها بسيادتها. لكن في لبنان، الذي يعاني منذ عقود من إضعاف مؤسساته، لم يعد التأجيل والتردد مجرد أخطاء عرضية، بل صار نمطًا متكرّرًا من التهرّب السياسي. نمط يحكم به ملف السلاح غير الشرعي وقضايا السيادة الأخرى، مما يحوّل مفهوم القرار إلى لعبة تأجيل مستمرة، كمن يحاول أن يبني قصرًا على رمال متحركة.
السيادة، في جوهرها، تعني قدرة الدولة على فرض إرادتها داخل حدودها، واحتكار العنف المشروع. في لبنان، هذه القدرة معلقة بين أيدي أطراف متعددة خارج نطاق الدولة، وتتبدل معادلة الحسم بين المساومات السياسية والحوار المؤجّل. وهنا، يُستبدل الحسم بـ"الحياد المفتعل" الذي يخفي وراءه خوفًا من المواجهة، كقائد سفينة يختار ألا يقرر اتجاه المسار وسط عاصفة تهدد بالغرق.
القرار المؤجّل ليس حيادًا بل تعطيل للسيادة
يُقال أحيانًا إن عدم اتخاذ قرار حاسم في ملف السلاح هو تجنّب للانقسام أو مراعاة للتوازنات الهشّة، أو حتى انتظارًا لأولويات أخرى. لكن هذا التبرير يغفل أن هذا السلوك ليس حيادًا نقيًا، بل هو تعطيل مقصود لمفهوم القرار نفسه. حين تتحوّل الدولة من فاعل مسؤول إلى مجرد وسيط يتفرّج على الأحداث، تتبدّل مرجعيتها من مصدر سلطة إلى شاهد صامت. إنها كالملك الذي تنازل عن سيفه، ليترك الأمر لفرسان متنازعين.
على أرض الواقع، نشهد كيف تتحوّل جلسات البرلمان والحكومات المتعاقبة إلى مسرح لتبادل المواقف التصريحية، حيث تُطرح المشكلة وتُعاد على نحو دوري دون حسم. تارة تُطرح مبادرات للتهدئة وتارة أخرى تهديدات بالتصعيد، وفي كلا الحالتين، يبقى القرار المؤجّل هو القانون النافذ. هذا التهرب من الحسم ليس غيابًا عابرًا للقرار، بل هو قرار قائم بحد ذاته، قرار بعدم اتخاذ قرار، يقوّض جوهر الدولة الحديثة التي تقوم على الوضوح في تحديد مصادر السلطة والحسم في ممارستها.
عنف خارج الدولة وقرار يُؤجّل
حسب الفلسفة السياسية الكلاسيكية، الدولة هي الكيان الذي يحتكر العنف المشروع. لكن في لبنان، توجد قوى مسلحة تعمل خارج سلطة الدولة، تُبرر وجودها بخطاب المقاومة، وأحيانًا يُصمت أو يُستساغ ذلك ضمن معادلات السياسة الداخلية. تكرار هذا الموقف وتحويله إلى سياسة رسمية بطيئة متكررة، ينتج حالة من الغموض والالتباس، لا الاستقرار.
مثلاً، عند كل أزمة إقليمية أو تصعيد عسكري إسرائيلي، يظهر هذا السلاح خارج الدولة كـ"عنصر حماية" في خطاب البعض، بينما يعترف الواقع بأن هذا السلاح لا يمنع وقوع الاعتداءات ولا يحمي لبنان من تداعيات الصراع، بل يكون أحد أسباب الرئيسي لتأزم الوضع الداخلي. الدولة بتهرّبها المتكرر من الحسم لا تحمي نفسها، بل تؤجّل الأزمة التي تنهش من مناعتها المؤسسية. المشكلة الحقيقية لا تكمن في غياب التسوية، بل في تكرار الهروب من تسمية الصراع الذي تعيشه السيادة.
التهرّب السياسي: أزمة ثقافية عميقة
يتجاوز التهرّب السياسي كونه أزمة قرار إلى كونه ظاهرة متجذرة في ثقافة سياسية تعايشت مع الانقسام والمصالح الخاصة، أكثر من التمسك بالسيادة ومصلحة الوطن. نشأت هذه الثقافة على أسس تقاسم النفوذ بدل ممارسته، وعلى المساومات بدل اتخاذ المواقف الصلبة.
في هذا المناخ، لم تعد السيادة تُحفظ بالمؤسسات والقوانين، بل بالتحالفات الخارجية والولاءات العابرة للدولة. هكذا يتحول خطاب الدفاع عن الدولة إلى ورقة تُلعب على مائدة القوى الخارجة عن سلطة القانون، كراقصين يحيكون شبكة معقدة من الحبال المتشابكة، حيث كل طرف يشدّ طرفًا آخر كيلا تسقط الشبكة.
يتماهى هذا الواقع مع مفهوم “إرادة السلطة” لفوكو، التي تتعدى المؤسسات الرسمية لتشمل الشبكات غير المرئية للنفوذ التي تتحكم في مجرى السياسة من وراء الكواليس، وتصبح السيادة ليست في المؤسسات بل في علاقات القوة الموازية. كما يشير نيتشه إلى أن القوة الحقيقية ليست فقط في فرض الأمر الواقع، بل في القدرة على تشكيل الإرادة الجماعية، وعندما تهرب الدولة من اتخاذ القرار، تفقد تلك الإرادة ويتلاشى معناها.
إعادة تعريف الوضوح السياسي
في لحظات الأزمات، يُختبر مدى وضوح الدولة مع ذاتها، لكن ما نراه هو ضياعٌ في اللغة، وتداخل بين ما هو مشروع وواقع مفروض. يُصبح القرار كلمة فارغة، والسيادة مفهوماً يُتفاوض عليه، لا يُمارس.
التهرّب من القرار وتحويله إلى وضع طبيعي يعلّق المؤسسات ويُعرقل الدستور، يشكل تهديدًا ليس فقط للسيادة بل لجوهر الدولة نفسها. كمثل نهر جفّ ماؤه وترك منسوبه في مجرى غير واضح، فلا يروي الأرض ولا يصنع حياة.
نحو رؤية للخروج من التهرّب
إعادة الحياة للقرار السياسي تتطلب استعادة إرادة الدولة باعتبارها الفاعل النهائي في حماية مصالح الوطن العليا. لا يمكن حل أزمة السيادة بالتهرّب أو تأجيل الحسم، بل عبر مواجهة جريئة لمصادر الانقسام وتحديد واضح لمساحات القرار السيادي.
إنها دعوة لإعادة تأسيس ثقافة سياسية تتجاوز حسابات التحالفات الضيقة، وتنطلق من مبدأ دولة القانون التي تُمارس سيادتها بشجاعة، كما دعى هابرماس إلى ضرورة التواصل النقدي والبناء كأساس لتجاوز أزمات الديمقراطية.
التهرّب السياسي مرآة لعجز جماعي
هنا، تتجلى مأساة السياسة: حين تتحول إرادة القرار إلى تردّد منقسم، تصبح السيادة كينونة هشّة تتلاشَى، ويُفقد الوطن معنى الاستمرارية. هذا التهرّب ليس مجرد غياب للحسم، بل هو حالة وجودية، حيث تخسر الدولة تعريفها كفاعل حر، ويتبدد وجودها بين محاولات ترميم مؤقتة وتفاوض مستمر.
في عمق هذا الصمت، تكمن دعوة فلسفية ملحّة: لكي يُستعاد القرار، لا بد من استعادة إرادة الوجود السياسي، حيث يتجرّد الحاكم من الخوف، ويقبل المخاطرة، ويختار الوقوف على أرض واضحة لا ضبابية فيها. لأن السياسة، في جوهرها، ليست فنّ التهرب، بل فن اتخاذ القرار رغم العواصف.
هل سنجرؤ على رفع سيف القرار، أم نظل أسرى التهرّب المتكرر، مُعلّقين بين الممكن والمستحيل؟
في زمن تتكاثر فيه الأزمات وتتآكل فيه أركان الدولة، يصبح القرار السياسي أكثر من مجرد اختيار أو موقف، بل هو علامة وجودية تعكس مدى تماسك الدولة وتمسكها بسيادتها. لكن في لبنان، الذي يعاني منذ عقود من إضعاف مؤسساته، لم يعد التأجيل والتردد مجرد أخطاء عرضية، بل صار نمطًا متكرّرًا من التهرّب السياسي. نمط يحكم به ملف السلاح غير الشرعي وقضايا السيادة الأخرى، مما يحوّل مفهوم القرار إلى لعبة تأجيل مستمرة، كمن يحاول أن يبني قصرًا على رمال متحركة.
السيادة، في جوهرها، تعني قدرة الدولة على فرض إرادتها داخل حدودها، واحتكار العنف المشروع. في لبنان، هذه القدرة معلقة بين أيدي أطراف متعددة خارج نطاق الدولة، وتتبدل معادلة الحسم بين المساومات السياسية والحوار المؤجّل. وهنا، يُستبدل الحسم بـ"الحياد المفتعل" الذي يخفي وراءه خوفًا من المواجهة، كقائد سفينة يختار ألا يقرر اتجاه المسار وسط عاصفة تهدد بالغرق.
القرار المؤجّل ليس حيادًا بل تعطيل للسيادة
يُقال أحيانًا إن عدم اتخاذ قرار حاسم في ملف السلاح هو تجنّب للانقسام أو مراعاة للتوازنات الهشّة، أو حتى انتظارًا لأولويات أخرى. لكن هذا التبرير يغفل أن هذا السلوك ليس حيادًا نقيًا، بل هو تعطيل مقصود لمفهوم القرار نفسه. حين تتحوّل الدولة من فاعل مسؤول إلى مجرد وسيط يتفرّج على الأحداث، تتبدّل مرجعيتها من مصدر سلطة إلى شاهد صامت. إنها كالملك الذي تنازل عن سيفه، ليترك الأمر لفرسان متنازعين.
على أرض الواقع، نشهد كيف تتحوّل جلسات البرلمان والحكومات المتعاقبة إلى مسرح لتبادل المواقف التصريحية، حيث تُطرح المشكلة وتُعاد على نحو دوري دون حسم. تارة تُطرح مبادرات للتهدئة وتارة أخرى تهديدات بالتصعيد، وفي كلا الحالتين، يبقى القرار المؤجّل هو القانون النافذ. هذا التهرب من الحسم ليس غيابًا عابرًا للقرار، بل هو قرار قائم بحد ذاته، قرار بعدم اتخاذ قرار، يقوّض جوهر الدولة الحديثة التي تقوم على الوضوح في تحديد مصادر السلطة والحسم في ممارستها.
عنف خارج الدولة وقرار يُؤجّل
حسب الفلسفة السياسية الكلاسيكية، الدولة هي الكيان الذي يحتكر العنف المشروع. لكن في لبنان، توجد قوى مسلحة تعمل خارج سلطة الدولة، تُبرر وجودها بخطاب المقاومة، وأحيانًا يُصمت أو يُستساغ ذلك ضمن معادلات السياسة الداخلية. تكرار هذا الموقف وتحويله إلى سياسة رسمية بطيئة متكررة، ينتج حالة من الغموض والالتباس، لا الاستقرار.
مثلاً، عند كل أزمة إقليمية أو تصعيد عسكري إسرائيلي، يظهر هذا السلاح خارج الدولة كـ"عنصر حماية" في خطاب البعض، بينما يعترف الواقع بأن هذا السلاح لا يمنع وقوع الاعتداءات ولا يحمي لبنان من تداعيات الصراع، بل يكون أحد أسباب الرئيسي لتأزم الوضع الداخلي. الدولة بتهرّبها المتكرر من الحسم لا تحمي نفسها، بل تؤجّل الأزمة التي تنهش من مناعتها المؤسسية. المشكلة الحقيقية لا تكمن في غياب التسوية، بل في تكرار الهروب من تسمية الصراع الذي تعيشه السيادة.
التهرّب السياسي: أزمة ثقافية عميقة
يتجاوز التهرّب السياسي كونه أزمة قرار إلى كونه ظاهرة متجذرة في ثقافة سياسية تعايشت مع الانقسام والمصالح الخاصة، أكثر من التمسك بالسيادة ومصلحة الوطن. نشأت هذه الثقافة على أسس تقاسم النفوذ بدل ممارسته، وعلى المساومات بدل اتخاذ المواقف الصلبة.
في هذا المناخ، لم تعد السيادة تُحفظ بالمؤسسات والقوانين، بل بالتحالفات الخارجية والولاءات العابرة للدولة. هكذا يتحول خطاب الدفاع عن الدولة إلى ورقة تُلعب على مائدة القوى الخارجة عن سلطة القانون، كراقصين يحيكون شبكة معقدة من الحبال المتشابكة، حيث كل طرف يشدّ طرفًا آخر كيلا تسقط الشبكة.
يتماهى هذا الواقع مع مفهوم “إرادة السلطة” لفوكو، التي تتعدى المؤسسات الرسمية لتشمل الشبكات غير المرئية للنفوذ التي تتحكم في مجرى السياسة من وراء الكواليس، وتصبح السيادة ليست في المؤسسات بل في علاقات القوة الموازية. كما يشير نيتشه إلى أن القوة الحقيقية ليست فقط في فرض الأمر الواقع، بل في القدرة على تشكيل الإرادة الجماعية، وعندما تهرب الدولة من اتخاذ القرار، تفقد تلك الإرادة ويتلاشى معناها.
إعادة تعريف الوضوح السياسي
في لحظات الأزمات، يُختبر مدى وضوح الدولة مع ذاتها، لكن ما نراه هو ضياعٌ في اللغة، وتداخل بين ما هو مشروع وواقع مفروض. يُصبح القرار كلمة فارغة، والسيادة مفهوماً يُتفاوض عليه، لا يُمارس.
التهرّب من القرار وتحويله إلى وضع طبيعي يعلّق المؤسسات ويُعرقل الدستور، يشكل تهديدًا ليس فقط للسيادة بل لجوهر الدولة نفسها. كمثل نهر جفّ ماؤه وترك منسوبه في مجرى غير واضح، فلا يروي الأرض ولا يصنع حياة.
إعادة الحياة للقرار السياسي تتطلب استعادة إرادة الدولة باعتبارها الفاعل النهائي في حماية مصالح الوطن العليا. لا يمكن حل أزمة السيادة بالتهرّب أو تأجيل الحسم، بل عبر مواجهة جريئة لمصادر الانقسام وتحديد واضح لمساحات القرار السيادي.
إنها دعوة لإعادة تأسيس ثقافة سياسية تتجاوز حسابات التحالفات الضيقة، وتنطلق من مبدأ دولة القانون التي تُمارس سيادتها بشجاعة، كما دعى هابرماس إلى ضرورة التواصل النقدي والبناء كأساس لتجاوز أزمات الديمقراطية.
التهرّب السياسي مرآة لعجز جماعي
هنا، تتجلى مأساة السياسة: حين تتحول إرادة القرار إلى تردّد منقسم، تصبح السيادة كينونة هشّة تتلاشَى، ويُفقد الوطن معنى الاستمرارية. هذا التهرّب ليس مجرد غياب للحسم، بل هو حالة وجودية، حيث تخسر الدولة تعريفها كفاعل حر، ويتبدد وجودها بين محاولات ترميم مؤقتة وتفاوض مستمر.
في عمق هذا الصمت، تكمن دعوة فلسفية ملحّة: لكي يُستعاد القرار، لا بد من استعادة إرادة الوجود السياسي، حيث يتجرّد الحاكم من الخوف، ويقبل المخاطرة، ويختار الوقوف على أرض واضحة لا ضبابية فيها. لأن السياسة، في جوهرها، ليست فنّ التهرب، بل فن اتخاذ القرار رغم العواصف.
هل سنجرؤ على رفع سيف القرار، أم نظل أسرى التهرّب المتكرر، مُعلّقين بين الممكن والمستحيل؟