نورما أبو زيد
نداء الوطن
بدا لبنان، في كانون الثاني 2025، كرولز رويس فانتوم 2025، خرجت لتوّها من معرض أحلام. بيضاء. برّاقة.
و Full Options: فتحة سقفٍ للأمل. مقاعد جلدٍ فاخر تليق بالغد. نظام صوتي يبثّ وعوداً بصوتٍ رخيم. وسائق شاب، عصري، وديناميكي. يبتسم في الزحمة. يتجاوز الحفر والمطبات. ولا يخشى المنعطفات.
في لحظة وميض، بدا وكأنّ لبنان استيقظ من كابوسه، وأنّ عجلة الاستفاقة بدأت بالدوران. لكن مفاجأة... السيارة تدور ولا تذهب. تعلك الزفت بلا وجهة. تتحرك في المكان، ولا تصل إلى مكان!
فخمة... نعم. لكنّها لا تنقل الحالمين. سيارة مخصّصة لالتقاط الغبار، لا الأحلام، في بلدٍ يستهلك إطاراته في الدوران حول ذاته، ويستنزف وقوده السياسي في انتظار "توافق"، يُشبه انتظار ملحد لمعجزة ظهور الزيت من الجدار.
في خضمّ هذا العُطل المتكرّر في ماكينة الدولة، حيث كلّ شيء يئنّ ولا يعمل، يطلّ النائب نعمة افرام من المقعد الخلفي. من مقاعد الاحتياط.
رئيس؟ نعم، لكن مع وقف التنفيذ.
يشبه الغد ببرنامجه الاقتصادي الإصلاحي، وغير محكوم بتوازنات الأمس. يملك بُعد الرؤية وضخامة المشروع. مدجّج بالخطط. لكنّ "ثورته" محاصرة داخل سيارة الدولة التي لا تسير.
لعنة متنقلة وبيئات موت بطيء
قبل أسبوعين، تقدّم افرام بمشروع قانون لمعالجة أزمة النفايات، يرتكز إلى تكامل بيئي ـ صناعي: وقف الطمر، والانتقال إلى الحلول المستدامة المفيدة للصناعة. مشروع لا يحتاج إلى عصا مورغان أورتيغاس الغليظة كي يبصر النور، بل إلى ما هو أندر: نيّة حقيقية بالعمل، وإرادة سياسية لا تخاف من تدوير النفايات.
في قلب هذا المشروع، تقنية الـ RDF – Refuse-Derived Fuel، وهي ما يتبقى بعد الفرز والتدوير، ليُعاد تحويله إلى وقود بديل يغذّي الصناعة، بدل من أن يُدفن في باطن الأرض ويحوّلها إلى بؤر تلوّث، وبيئات موتٍ بطيء.
يشرح افرام: كلّ طنين من الـ RDF يعادلان تقريباً طناً واحداً من المازوت. إذا اعتمدنا هذه التقنية، يمكننا أن نحدّ بشكلٍ جذري من أزمة النفايات في لبنان.
ثمّ يذهب خطوة أبعد ويقول:
شركات الترابة يجب أن تُمنع من الاستمرار في حرق الـ Petcoke، وهو وقود ملوّث عالي الانبعاث، ويُفرض عليها استبداله بالـ RDF الصديق للبيئة. هكذا يتحوّل العبء إلى مورد، وتصبح النفايات وقوداً، لا لعنة تُنقل من مطمر إلى آخر.
الودائع في مقابر المصارف
ومن بين أبرز ابتكارات افرام الاقتصادية، هيئة تثمير أصول الدولة "هتاد"، التي يسعى من خلالها لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: رفع مستوى الخدمات. انتشال الإدارة من فسادها. وترميم جزء من الودائع المنهوبة.
كيف؟
ببساطة، تضع الدولة جزءاً من أصولها وديعة لدى "هتاد". الهيئة بدورها تستقطب رساميل جديدة لتشغيل تلك الأصول وتطويرها، على أن تُعاد الأصول إلى الدولة بعد فترة زمنية يُتّفق عليها سابقاً. أمّا العنصر الأهمّ، هو البُعد النقدي، إذ يمكن للمودع أنّ يشتري حتى 20 % من رساميل "هتاد" باللولار، فيحوّل وديعته المجمّدة إلى سند أو سهم، في مؤسّسة عامة من مؤسسات الهيئة، قد تكون كهرباء، ماء، اتصالات... هكذا بدلاً من أن تبقى الودائع مدفونة في مقابر المصارف، تتحوّل إلى حصص في مشروع إنتاجي.
مركبة واحدة وسائقان
مشروع القانون جاهز، لكنّه عالق في الانتظار. ليس لأنّ النص ناقص، بل لأنّ رجل المبادرات، يرفض ضخّ حلول اقتصادية في فراغ سياسي وأمني. بنظره، لا إصلاح مالي من دون تصحيح تموضع الدولة، ولا حلول اقتصادية بلا "حلحلة" موازية في ملفّ السلاح.
برأيه، سيارة الدولة عالقة، لا لأنّ الطريق مقطوعة، بل لأنّ المقود في يد رئيس الجمهورية، ورِجْل حزب الله على الفرامل.
هكذا يختصر النائب افرام المشهد. مركبة واحدة وسائقان. لا تتحرك، ولا تنطفىء... فقط تستهلك الوقت والبنزين.
كلامٌ من عيار ثقيل وجريء، يستدعي أسئلة من لحم الواقع، يجيب عليها رئيس وطن الإنسان بالـ Macro. "متشائلٌ"، لا متفائل ولا متشائم. عالق في المنطقة الرمادية بين الاندفاع والتريّث. يعتبر أنّ الـ Momentum يلفظ آخر أنفاسه، وأنّ رئيس الجمهورية جوزاف عون في وضعٍ لا يُحسد عليه، ولكن رغم صعوبة الوضع، عليه ألاّ يكتفي بوضع ملفّ السلاح على طاولة مجلس الوزراء. عليه أن يحسم. يستطرد: يوم الثلاثاء مفصلي في ما يتعلّق بمصير السلاح، ولبنان بكلّ مكوّناته، يقف مترقباً هذه اللحظة، كفرصة لإثبات جديّة الدولة في استعادة قرارها السيادي. لكن ما نخشاه، هو أن تنتهي الجلسة بإنتاج تسوية لفظية، أو صيغة تنميقية، لا تُقنع أحداً في الداخل أو لدى أصدقاء الخارج من المجتمعين العربي والدولي، بل تضيف دليلاً على أنّ الكيان اللبناني يفقد أسباب وجوده، لا فقط أدوات حكمه. وعندها، قد يُدرج لبنان في خانة من لا يستحقّ الحياة السياسية، وتتحوّل الدولة إلى مجرّد إسم فائض في أرشيف الأمم. ويضيف: الخطر كبير، والتفريط بالفرصة قد يكون قاتلاً.
لا وقت لمناورة حزب الله
يرى افرام أنّ طهران عادت إلى طهران، وأنّ ما تبقّى ليس سوى ارتدادات بعيدة لمعادلات إقليمية لم نعد جزءاً منها. وبرأيه، لم يبقَ أمام لبنان سوى قطارين لا ثالث لهما:
قطار أميركي يسعى إلى تثبيت الكيانات، وترميم الحدود. وقطار إسرائيلي لا يؤمن إلاّ بالتفتيت والتقسيم. وعليه، على حزب الله أن يُدرك من دون أوهام، أنّ لا وقت للمناورة، وأنّ الفشل في اللحاق بالقطار الأميركي، لن يعني سوى الانزلاق، نحو القطار الإسرائيلي.
يذهب افرام أبعد، ويقول إنّ إيران، قد تسهّل مرور القطار الإسرائيلي في لبنان، من باب فرط الشدّ السياسي والأمني.
ثمّ يضيف بعبارة تلخّص المفترق الحاد: إذا لم نعرف كيف نركب القطار الأميركي، سنجد أنفسنا مرغمين على الصعود في القطار الإسرائيلي.
نسأله:
بدفع إيراني مقصود؟
فيجيب:
بتقاطع.
يؤكّد النائب نعمة افرام أنّ المشروعين الأميركي والإسرائيلي في المنطقة ليسا متطابقين في الجوهر. الأول، لا يزال وفياً لخرائط سايس بيكو، يؤمن بالحدود التي رُسمت بعد الحرب الكبرى، ويسعى إلى تثبيت الكيانات وترميم النظام الإقليمي القائم. أمّا الثاني، فيرى في تلك الخرائط قيداً على مشروعه الأصلي، وتناقضاً صارخاً مع وعد بلفور. وبهذا المعنى، يرى افرام أنّ لبنان اليوم أمام مفترق لا يُحتمل فيه الغموض:
إمّا الالتحاق بقطار التثبيت الأميركي، وإمّا الانزلاق نحو التفتيت الإسرائيلي.
نسأل النائب نعمة افرام:
ألم يثبت أنّ الانفصال بين متناقضين، أرحم من العيش مكرهين تحت سقف واحد؟
فيجيب بتردّد:
أنا لم أصل إلى هذه القناعة، ربما لأنّني أخاف من كلفة النقلة... من كلفة الدم. النقلة فيها دم كثير وهائل.
ثمّ ننتقل إلى سؤال آخر:
أيّ المشروعين يبدو اليوم أقرب إلى الانتصار: الأميركي أم الإسرائيلي؟
فيردّ بلا تردّد:
يجب أن نساعد ونشجّع المشروع الأميركي. بلّ على حزب الله نفسه أن يشجّع هذا المشروع. أخشى أن نكون من حيث لا ندري من مشجّعي المشروع الإسرائيلي.
ويضيف بنبرة تحذيرية: ما يجري ليس عابراً. إنّه تمهيد لهزّة كبرى في الكيان اللبناني. موضوع السلاح لم يعد محصوراً بالسلاح نفسه، بل تحوّل إلى مسالة جيوبوليتيكية كيانية عميقة، تتعلّق بسؤال وجودي: هل الدولة اللبنانية قادرة على أن تدير نفسها، أم هي دولة تُدار؟ "هلقد صارت كبيرة".
نسأل:
قرار السلاح في بيروت أم في طهران؟
لا يجيب مباشرةً، بل يلتف بمهارة على السؤال ويقول: ما يشغلني فعلاً هو تزامن النبرة بين الضاحية وطهران. عندما بدأت طهران تقول: أنا عدت إلى التخصيب. أنا أعدتُ بناء الدفاع الجوي. وأنا جاهزة للحرب، تبدّلت لهجة حزب الله في بيروت، والخطاب الأخير لأمين عام حزب الله يُخيّرنا بين الانتحار والانتحار.
الاقتصاد والسلاح وجهان لأزمة واحدة
نفترض تجاوزاً أنّ ما يجري في ملفّ السلاح، مفهوم في سياقاته، ومبرّر في حساباته، لكن ماذا عن الاقتصاد؟ لماذا يبدو مهجوراً من سياسيينا؟ وإلى متى تُدار التفليسة بالتصريحات لا بالقرارات؟
نعمة افرام لا يرى في الاقتصاد والسلاح ملفين منفصلين، بل وجهين لأزمة واحدة. وحين يُسأل، لا يتردّد في إعادة وصل الاقتصاد بالسلاح، ويجيب بلا مواربة: كلّ ما قيل عن الزمن الجديد، عن انطلاق مسار التعافي، كان مرهوناً بالمستقبل، بقدرتنا على استعادة الثقة واستقطاب رؤوس الأموال. لكنّنا لم ننجح حتى اللحظة، والسبب أنّ حزب الله اختار أن يبقى خارج هذه العملية. وما لا أستطيع أن أفهمه: لماذا يمتنع.
ننتقل من سؤالٍ إلى سؤال:
إذا صحّ أنّ حزب الله يفرّغ العهد من أحشائه، فلماذا يُسمح له بذلك؟
يصمت لحظة ثم يقول:
من اللياقة أن لا أعلّق. مسألة دقيقة، ولا أحبّ أن أكون اليوم في مكان الرئيس عون، لأنّه يقف أمام معادلة مقلقة، وعليه أن يختار أيّهما أرخص على لبنان: مشكل داخلي أم مشكل خارجي على مستوى دولي؟
ويضيف:
كلمة الرئيس عون في وزارة الدفاع مفصلية. هي النداء الأخير بين البقاء والاندثار، وآمل أنها تعبّر عن موقف رئيس البرلمان أيضاً، وحكماً تعبّر عن موقف رئيس الحكومة. ولكن لماذا بلغ كلام نعيم قاسم ذروة التصعيد بعد الكلمة الفصل لجوزاف عون؟
يسأل افرام ولا يجيب. يترك السؤال معلقاً. ومن ثمّ يستطرد: المعادلة معقّدة، صعبة.
نسأل النائب نعمة افرام:
هل يعني ذلك أنّ حزب الله هو من يُدير الدولة؟
يجيب بتمعّن:
أفهم أنّ لدى حزب الله محاذير حقيقية تمنعه من الدخول في مشروع الحلّ، لكن ما لا أفهمه، هو لماذا لا يحاول معالجة هذا القلق مع سائر مكوّنات الوطن، وفي طليعتهم الجيش اللبناني؟
نحن لا نطلب أن يسلّم سلاحه إلى إسرائيل، بلّ إلى الدولة، إلى مؤسسة الجيش اللبناني، إلى مشروع أمن قومي لبناني جامع.
نطرح عليه:
أليست مجازر سوريا مبرراً كافياً لاحتفاظه بسلاحه؟
فيجيب:
يعتمد ذلك على مدى ثقته بدولة لبنان.
نقول له:
ولكن الجيش يتلف السلاح.
فيقول بوضوح:
لا يجب القبول بفكرة تلف السلاح. السلاح يُتلف حين تغيب الثقة. حين لا يكون هناك تنسيق كافٍ. وأحياناً، تصل المخاوف إلى حدّ الشكّ بأنّ صندوق الذخيرة قد يكون ملغماً، وقد ينفجر في مخازن الجيش.
نسأل:
أليس تلف السلاح مطلباً إسرائيلياً؟
فيجيب:
يجب أن نميّز بين ما يجب أن يُتلف، وما يجب أن يُترك. نحن بحاجة إلى السلاح "عالكتف حمّال". ولكن هذا يحتاج إلى ثقة، وإلى إرادة حقيقية للعيش المشترك، للعيش معاً.
حزب الله كمن يعيش مع زوجته في منزل واحد لكنّه لا يأتمنها على الطبخ. يظلّ واقفاً "على إيدا" خوفاً من أن تُسمّمه. إذا وصلنا إلى هنا "شو عايش تعمل هون بعد"؟
يتابع: على حزب الله أن يتحوّل إلى حزب سياسي مثل سائر القوى اللبنانية. هذا ليس مطلباً تعجيزياً، بلّ ضرورة وطنية ملحّة، ويُفترض أن يتحقّق مطلب حصر السلاح خلال شهر أو اثنين كحدٍّ أقصى، لأنّ البديل ببساطة هو الانزلاق نحو المشروع الإسرائيلي، سواء أردنا أو لم نُرد.
ويضيف افرام بنبرة القلق: أخشى أن نصل، بحكم الأمر الواقع، إلى صدام بين لبنان والمجتمع الدولي. صدام قد لا يأتي على شكل حرب، لكنّه يُترجم إلى ضغط خارجي يتسلّل إلى الداخل، ويولّد انفجارات اجتماعية وسياسية. وإذا استمرّت المراوحة على المنوال الحالي لأسبوعين أو ثلاثة، حتّى برّاك لا نعود نسمع باسمه... الضغط كبير. تفوّه برّاك بكلام كبير حين قال لنا: "كتير معقدة وما عم افهم شي... عقّدناه لبرّاك".
نحن الكيان الفاشل
وفي هذا الإطار، لا يتردّد النائب افرام في التعبير عن خوفه من إعادة تلزيم لبنان نتيجة القصور السياسي. يقول:
أنا خائف. أشعر أنّ ملفاً يُفصّل على قياس لبنان. نحن الكيان الفاشل الذي تجاوز مرحلة الدولة الفاشلة. بداية هذه النظرة تعود إلى لحظة مفصلية، عندما لم تتمكن طائرة هنري كيسنجر من الهبوط في مطار بيروت. أبلغ لبنان واشنطن أنّه عاجز عن حماية أرضه، وعن تأمين استقبال وزير خارجية أقوى دولة في العالم. فماذا كان ردّ الفعل؟ كيسنجر غيّر مساره. هبط في دمشق، ومن هناك بدأت قصة الغرام السياسي مع حافظ الأسد، ومنذ تلك الحظة أُعطيت وكالة لبنان للأسد، وبدأ عهد طويل من التلزيم.
نسأل:
ماذا تتوقّع من رئيس الجمهورية أن يفعل في الأيام المقبلة؟
فيجيب بلا تردّد:
عليه أن يُنجز الثلاثاء قبولاً صريحاً من حزب الله بتسليم السلاح. على حزب الله أن يأتي إلى الطاولة ويقول ببساطة "خيي أنا مشيت"، وليعلن ولو حتى كلامياً في البداية: أنا التزمت مشروع الدولة، وسلاحي كلّه في خدمة الجيش اللبناني.
نسأل:
هناك Momentum نخسره أم خسرناه؟
يصمت طويلاً كمن يقيس كلماته ثمّ يجيب: على آخر، إذا لم نتدارك الأمر سريعاً. تستطيع الأمور أن تقلب إيجاباً، وتستطيع أن تنقلب علينا.
ثمّ يضيف بلغة محبّبة: "خيي سلّم السلاح وكلّ شي بيمشي". بعد وقت قصير سيقال لك: "ما بقى في شي يمشي لو شو ما عملت". لن نجد من يتكلّم معنا. لن نجد من يسمعنا!
و Full Options: فتحة سقفٍ للأمل. مقاعد جلدٍ فاخر تليق بالغد. نظام صوتي يبثّ وعوداً بصوتٍ رخيم. وسائق شاب، عصري، وديناميكي. يبتسم في الزحمة. يتجاوز الحفر والمطبات. ولا يخشى المنعطفات.
في لحظة وميض، بدا وكأنّ لبنان استيقظ من كابوسه، وأنّ عجلة الاستفاقة بدأت بالدوران. لكن مفاجأة... السيارة تدور ولا تذهب. تعلك الزفت بلا وجهة. تتحرك في المكان، ولا تصل إلى مكان!
فخمة... نعم. لكنّها لا تنقل الحالمين. سيارة مخصّصة لالتقاط الغبار، لا الأحلام، في بلدٍ يستهلك إطاراته في الدوران حول ذاته، ويستنزف وقوده السياسي في انتظار "توافق"، يُشبه انتظار ملحد لمعجزة ظهور الزيت من الجدار.
في خضمّ هذا العُطل المتكرّر في ماكينة الدولة، حيث كلّ شيء يئنّ ولا يعمل، يطلّ النائب نعمة افرام من المقعد الخلفي. من مقاعد الاحتياط.
رئيس؟ نعم، لكن مع وقف التنفيذ.
يشبه الغد ببرنامجه الاقتصادي الإصلاحي، وغير محكوم بتوازنات الأمس. يملك بُعد الرؤية وضخامة المشروع. مدجّج بالخطط. لكنّ "ثورته" محاصرة داخل سيارة الدولة التي لا تسير.
لعنة متنقلة وبيئات موت بطيء
قبل أسبوعين، تقدّم افرام بمشروع قانون لمعالجة أزمة النفايات، يرتكز إلى تكامل بيئي ـ صناعي: وقف الطمر، والانتقال إلى الحلول المستدامة المفيدة للصناعة. مشروع لا يحتاج إلى عصا مورغان أورتيغاس الغليظة كي يبصر النور، بل إلى ما هو أندر: نيّة حقيقية بالعمل، وإرادة سياسية لا تخاف من تدوير النفايات.
في قلب هذا المشروع، تقنية الـ RDF – Refuse-Derived Fuel، وهي ما يتبقى بعد الفرز والتدوير، ليُعاد تحويله إلى وقود بديل يغذّي الصناعة، بدل من أن يُدفن في باطن الأرض ويحوّلها إلى بؤر تلوّث، وبيئات موتٍ بطيء.
يشرح افرام: كلّ طنين من الـ RDF يعادلان تقريباً طناً واحداً من المازوت. إذا اعتمدنا هذه التقنية، يمكننا أن نحدّ بشكلٍ جذري من أزمة النفايات في لبنان.
ثمّ يذهب خطوة أبعد ويقول:
شركات الترابة يجب أن تُمنع من الاستمرار في حرق الـ Petcoke، وهو وقود ملوّث عالي الانبعاث، ويُفرض عليها استبداله بالـ RDF الصديق للبيئة. هكذا يتحوّل العبء إلى مورد، وتصبح النفايات وقوداً، لا لعنة تُنقل من مطمر إلى آخر.
الودائع في مقابر المصارف
ومن بين أبرز ابتكارات افرام الاقتصادية، هيئة تثمير أصول الدولة "هتاد"، التي يسعى من خلالها لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: رفع مستوى الخدمات. انتشال الإدارة من فسادها. وترميم جزء من الودائع المنهوبة.
كيف؟
ببساطة، تضع الدولة جزءاً من أصولها وديعة لدى "هتاد". الهيئة بدورها تستقطب رساميل جديدة لتشغيل تلك الأصول وتطويرها، على أن تُعاد الأصول إلى الدولة بعد فترة زمنية يُتّفق عليها سابقاً. أمّا العنصر الأهمّ، هو البُعد النقدي، إذ يمكن للمودع أنّ يشتري حتى 20 % من رساميل "هتاد" باللولار، فيحوّل وديعته المجمّدة إلى سند أو سهم، في مؤسّسة عامة من مؤسسات الهيئة، قد تكون كهرباء، ماء، اتصالات... هكذا بدلاً من أن تبقى الودائع مدفونة في مقابر المصارف، تتحوّل إلى حصص في مشروع إنتاجي.
مركبة واحدة وسائقان
مشروع القانون جاهز، لكنّه عالق في الانتظار. ليس لأنّ النص ناقص، بل لأنّ رجل المبادرات، يرفض ضخّ حلول اقتصادية في فراغ سياسي وأمني. بنظره، لا إصلاح مالي من دون تصحيح تموضع الدولة، ولا حلول اقتصادية بلا "حلحلة" موازية في ملفّ السلاح.
برأيه، سيارة الدولة عالقة، لا لأنّ الطريق مقطوعة، بل لأنّ المقود في يد رئيس الجمهورية، ورِجْل حزب الله على الفرامل.
هكذا يختصر النائب افرام المشهد. مركبة واحدة وسائقان. لا تتحرك، ولا تنطفىء... فقط تستهلك الوقت والبنزين.
كلامٌ من عيار ثقيل وجريء، يستدعي أسئلة من لحم الواقع، يجيب عليها رئيس وطن الإنسان بالـ Macro. "متشائلٌ"، لا متفائل ولا متشائم. عالق في المنطقة الرمادية بين الاندفاع والتريّث. يعتبر أنّ الـ Momentum يلفظ آخر أنفاسه، وأنّ رئيس الجمهورية جوزاف عون في وضعٍ لا يُحسد عليه، ولكن رغم صعوبة الوضع، عليه ألاّ يكتفي بوضع ملفّ السلاح على طاولة مجلس الوزراء. عليه أن يحسم. يستطرد: يوم الثلاثاء مفصلي في ما يتعلّق بمصير السلاح، ولبنان بكلّ مكوّناته، يقف مترقباً هذه اللحظة، كفرصة لإثبات جديّة الدولة في استعادة قرارها السيادي. لكن ما نخشاه، هو أن تنتهي الجلسة بإنتاج تسوية لفظية، أو صيغة تنميقية، لا تُقنع أحداً في الداخل أو لدى أصدقاء الخارج من المجتمعين العربي والدولي، بل تضيف دليلاً على أنّ الكيان اللبناني يفقد أسباب وجوده، لا فقط أدوات حكمه. وعندها، قد يُدرج لبنان في خانة من لا يستحقّ الحياة السياسية، وتتحوّل الدولة إلى مجرّد إسم فائض في أرشيف الأمم. ويضيف: الخطر كبير، والتفريط بالفرصة قد يكون قاتلاً.
لا وقت لمناورة حزب الله
يرى افرام أنّ طهران عادت إلى طهران، وأنّ ما تبقّى ليس سوى ارتدادات بعيدة لمعادلات إقليمية لم نعد جزءاً منها. وبرأيه، لم يبقَ أمام لبنان سوى قطارين لا ثالث لهما:
قطار أميركي يسعى إلى تثبيت الكيانات، وترميم الحدود. وقطار إسرائيلي لا يؤمن إلاّ بالتفتيت والتقسيم. وعليه، على حزب الله أن يُدرك من دون أوهام، أنّ لا وقت للمناورة، وأنّ الفشل في اللحاق بالقطار الأميركي، لن يعني سوى الانزلاق، نحو القطار الإسرائيلي.
يذهب افرام أبعد، ويقول إنّ إيران، قد تسهّل مرور القطار الإسرائيلي في لبنان، من باب فرط الشدّ السياسي والأمني.
ثمّ يضيف بعبارة تلخّص المفترق الحاد: إذا لم نعرف كيف نركب القطار الأميركي، سنجد أنفسنا مرغمين على الصعود في القطار الإسرائيلي.
نسأله:
بدفع إيراني مقصود؟
فيجيب:
بتقاطع.
يؤكّد النائب نعمة افرام أنّ المشروعين الأميركي والإسرائيلي في المنطقة ليسا متطابقين في الجوهر. الأول، لا يزال وفياً لخرائط سايس بيكو، يؤمن بالحدود التي رُسمت بعد الحرب الكبرى، ويسعى إلى تثبيت الكيانات وترميم النظام الإقليمي القائم. أمّا الثاني، فيرى في تلك الخرائط قيداً على مشروعه الأصلي، وتناقضاً صارخاً مع وعد بلفور. وبهذا المعنى، يرى افرام أنّ لبنان اليوم أمام مفترق لا يُحتمل فيه الغموض:
إمّا الالتحاق بقطار التثبيت الأميركي، وإمّا الانزلاق نحو التفتيت الإسرائيلي.
نسأل النائب نعمة افرام:
ألم يثبت أنّ الانفصال بين متناقضين، أرحم من العيش مكرهين تحت سقف واحد؟
فيجيب بتردّد:
أنا لم أصل إلى هذه القناعة، ربما لأنّني أخاف من كلفة النقلة... من كلفة الدم. النقلة فيها دم كثير وهائل.
ثمّ ننتقل إلى سؤال آخر:
أيّ المشروعين يبدو اليوم أقرب إلى الانتصار: الأميركي أم الإسرائيلي؟
فيردّ بلا تردّد:
يجب أن نساعد ونشجّع المشروع الأميركي. بلّ على حزب الله نفسه أن يشجّع هذا المشروع. أخشى أن نكون من حيث لا ندري من مشجّعي المشروع الإسرائيلي.
ويضيف بنبرة تحذيرية: ما يجري ليس عابراً. إنّه تمهيد لهزّة كبرى في الكيان اللبناني. موضوع السلاح لم يعد محصوراً بالسلاح نفسه، بل تحوّل إلى مسالة جيوبوليتيكية كيانية عميقة، تتعلّق بسؤال وجودي: هل الدولة اللبنانية قادرة على أن تدير نفسها، أم هي دولة تُدار؟ "هلقد صارت كبيرة".
نسأل:
قرار السلاح في بيروت أم في طهران؟
لا يجيب مباشرةً، بل يلتف بمهارة على السؤال ويقول: ما يشغلني فعلاً هو تزامن النبرة بين الضاحية وطهران. عندما بدأت طهران تقول: أنا عدت إلى التخصيب. أنا أعدتُ بناء الدفاع الجوي. وأنا جاهزة للحرب، تبدّلت لهجة حزب الله في بيروت، والخطاب الأخير لأمين عام حزب الله يُخيّرنا بين الانتحار والانتحار.
الاقتصاد والسلاح وجهان لأزمة واحدة
نفترض تجاوزاً أنّ ما يجري في ملفّ السلاح، مفهوم في سياقاته، ومبرّر في حساباته، لكن ماذا عن الاقتصاد؟ لماذا يبدو مهجوراً من سياسيينا؟ وإلى متى تُدار التفليسة بالتصريحات لا بالقرارات؟
نعمة افرام لا يرى في الاقتصاد والسلاح ملفين منفصلين، بل وجهين لأزمة واحدة. وحين يُسأل، لا يتردّد في إعادة وصل الاقتصاد بالسلاح، ويجيب بلا مواربة: كلّ ما قيل عن الزمن الجديد، عن انطلاق مسار التعافي، كان مرهوناً بالمستقبل، بقدرتنا على استعادة الثقة واستقطاب رؤوس الأموال. لكنّنا لم ننجح حتى اللحظة، والسبب أنّ حزب الله اختار أن يبقى خارج هذه العملية. وما لا أستطيع أن أفهمه: لماذا يمتنع.
ننتقل من سؤالٍ إلى سؤال:
إذا صحّ أنّ حزب الله يفرّغ العهد من أحشائه، فلماذا يُسمح له بذلك؟
يصمت لحظة ثم يقول:
من اللياقة أن لا أعلّق. مسألة دقيقة، ولا أحبّ أن أكون اليوم في مكان الرئيس عون، لأنّه يقف أمام معادلة مقلقة، وعليه أن يختار أيّهما أرخص على لبنان: مشكل داخلي أم مشكل خارجي على مستوى دولي؟
ويضيف:
كلمة الرئيس عون في وزارة الدفاع مفصلية. هي النداء الأخير بين البقاء والاندثار، وآمل أنها تعبّر عن موقف رئيس البرلمان أيضاً، وحكماً تعبّر عن موقف رئيس الحكومة. ولكن لماذا بلغ كلام نعيم قاسم ذروة التصعيد بعد الكلمة الفصل لجوزاف عون؟
يسأل افرام ولا يجيب. يترك السؤال معلقاً. ومن ثمّ يستطرد: المعادلة معقّدة، صعبة.
نسأل النائب نعمة افرام:
هل يعني ذلك أنّ حزب الله هو من يُدير الدولة؟
يجيب بتمعّن:
أفهم أنّ لدى حزب الله محاذير حقيقية تمنعه من الدخول في مشروع الحلّ، لكن ما لا أفهمه، هو لماذا لا يحاول معالجة هذا القلق مع سائر مكوّنات الوطن، وفي طليعتهم الجيش اللبناني؟
نحن لا نطلب أن يسلّم سلاحه إلى إسرائيل، بلّ إلى الدولة، إلى مؤسسة الجيش اللبناني، إلى مشروع أمن قومي لبناني جامع.
نطرح عليه:
أليست مجازر سوريا مبرراً كافياً لاحتفاظه بسلاحه؟
فيجيب:
يعتمد ذلك على مدى ثقته بدولة لبنان.
نقول له:
ولكن الجيش يتلف السلاح.
فيقول بوضوح:
لا يجب القبول بفكرة تلف السلاح. السلاح يُتلف حين تغيب الثقة. حين لا يكون هناك تنسيق كافٍ. وأحياناً، تصل المخاوف إلى حدّ الشكّ بأنّ صندوق الذخيرة قد يكون ملغماً، وقد ينفجر في مخازن الجيش.
نسأل:
أليس تلف السلاح مطلباً إسرائيلياً؟
فيجيب:
يجب أن نميّز بين ما يجب أن يُتلف، وما يجب أن يُترك. نحن بحاجة إلى السلاح "عالكتف حمّال". ولكن هذا يحتاج إلى ثقة، وإلى إرادة حقيقية للعيش المشترك، للعيش معاً.
حزب الله كمن يعيش مع زوجته في منزل واحد لكنّه لا يأتمنها على الطبخ. يظلّ واقفاً "على إيدا" خوفاً من أن تُسمّمه. إذا وصلنا إلى هنا "شو عايش تعمل هون بعد"؟
يتابع: على حزب الله أن يتحوّل إلى حزب سياسي مثل سائر القوى اللبنانية. هذا ليس مطلباً تعجيزياً، بلّ ضرورة وطنية ملحّة، ويُفترض أن يتحقّق مطلب حصر السلاح خلال شهر أو اثنين كحدٍّ أقصى، لأنّ البديل ببساطة هو الانزلاق نحو المشروع الإسرائيلي، سواء أردنا أو لم نُرد.
ويضيف افرام بنبرة القلق: أخشى أن نصل، بحكم الأمر الواقع، إلى صدام بين لبنان والمجتمع الدولي. صدام قد لا يأتي على شكل حرب، لكنّه يُترجم إلى ضغط خارجي يتسلّل إلى الداخل، ويولّد انفجارات اجتماعية وسياسية. وإذا استمرّت المراوحة على المنوال الحالي لأسبوعين أو ثلاثة، حتّى برّاك لا نعود نسمع باسمه... الضغط كبير. تفوّه برّاك بكلام كبير حين قال لنا: "كتير معقدة وما عم افهم شي... عقّدناه لبرّاك".
نحن الكيان الفاشل
وفي هذا الإطار، لا يتردّد النائب افرام في التعبير عن خوفه من إعادة تلزيم لبنان نتيجة القصور السياسي. يقول:
أنا خائف. أشعر أنّ ملفاً يُفصّل على قياس لبنان. نحن الكيان الفاشل الذي تجاوز مرحلة الدولة الفاشلة. بداية هذه النظرة تعود إلى لحظة مفصلية، عندما لم تتمكن طائرة هنري كيسنجر من الهبوط في مطار بيروت. أبلغ لبنان واشنطن أنّه عاجز عن حماية أرضه، وعن تأمين استقبال وزير خارجية أقوى دولة في العالم. فماذا كان ردّ الفعل؟ كيسنجر غيّر مساره. هبط في دمشق، ومن هناك بدأت قصة الغرام السياسي مع حافظ الأسد، ومنذ تلك الحظة أُعطيت وكالة لبنان للأسد، وبدأ عهد طويل من التلزيم.
نسأل:
ماذا تتوقّع من رئيس الجمهورية أن يفعل في الأيام المقبلة؟
فيجيب بلا تردّد:
عليه أن يُنجز الثلاثاء قبولاً صريحاً من حزب الله بتسليم السلاح. على حزب الله أن يأتي إلى الطاولة ويقول ببساطة "خيي أنا مشيت"، وليعلن ولو حتى كلامياً في البداية: أنا التزمت مشروع الدولة، وسلاحي كلّه في خدمة الجيش اللبناني.
نسأل:
هناك Momentum نخسره أم خسرناه؟
يصمت طويلاً كمن يقيس كلماته ثمّ يجيب: على آخر، إذا لم نتدارك الأمر سريعاً. تستطيع الأمور أن تقلب إيجاباً، وتستطيع أن تنقلب علينا.
ثمّ يضيف بلغة محبّبة: "خيي سلّم السلاح وكلّ شي بيمشي". بعد وقت قصير سيقال لك: "ما بقى في شي يمشي لو شو ما عملت". لن نجد من يتكلّم معنا. لن نجد من يسمعنا!