لم يكن الأحد الخامس من تشرين الأول للعام ٢٠٢٥ نهارًا كسائر الأيام في ذاكرة الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، بل كان فصلاً جديدًا من فصول العشق الروحي، كتبته الأجراس على ضفاف الجبل والساحل، من دوما إلى الأشرفية، حين عانق الفرح وجه الزمن، وانسكبت الأنغام بردًا وسلامًا على القلوب.
في دوما، تلك البلدة المعلّقة على كتف البترون كأنها صلاة في أعالي التراب، حطّ الرحالُ راعِي الرعاة، وغبطته أثقل من الذهب حين يكون القلب وطنًا للصلاة، جاءها البطريرك يوحنا العاشر، حاملًا عبق الذاكرة ومهابة الرسالة، ليفتح بيديه بوابة وفاء، عَبْرَ افتتاح متحف المطران أنطونيوس بشير، ذاك الرجل الذي وسّع حدود أنطاكية حتى أميركا الشمالية، وترك على جدران الكنيسة أثرًا لا يُمحى، من عام ١٩٣٦ حتى ١٩٦٦.
دوما لم تكن غريبة عن المجد، فقد خبأت في حجرها سرّ الجمال، وفي سوقها تراتيل التجارة البريئة، وفي بيوتها الحجرية حكايات لا تزال تنام على وسائد من ضوء. هذه البلدة التي اختارها العالم واحدة من أجمل القرى السياحية في ٢٠٢٣، جعلت من تكريم بشير شعلةً تتقد بالحب. انبثقت الفكرة في عهد المطران الجليل جورج خضر، ونضجت بيد الخلف الأمين، المطران سلوان موسى، الذي حمل الشعلة برهافة القلب وصدق الإيمان. وسقاها أبناء دوما بدمع الحب وتراب الانتماء، حتى أينعت فكرة الوفاء متحفًا نابضًا بالذاكرة.
وعلى عتبة هذا الفرح، وقف الزمن شاهدًا، بحضور مطارنة المجمع الأنطاكي المقدّس، وإكليروس أبرشية جبل لبنان، ووفدٍ مهيبٍ من أبرشية نيويورك وأميركا الشمالية، تلك التي لا تزال تحفظ للمطران أنطونيوس بشير ما زرعه فيها من وثبات نيّرة، نقشت في تاريخها علامات مجدٍ لا تبهت، وخطّت دربًا مشرقًا للأجيال في دروب الكهنوت والخدمة.
وفيما كانت السماء تقطر مطرًا خفيفًا على دوما، أضاءت أنوارُ المجد كنيسة القديس نيقولاوس في الأشرفية. هناك، في قلب العاصمة، صدحت ملائكة الأرض ترنيمًا، تحت جناح المطران الياس عوده، راعي بيروت العتيقة والحديثة معًا. جوقتان من ذهب: جوقة طرابلس الأرثوذكسية، وجوقة القديس رومانوس المرنّم، اجتمعتا بقيادة الأب أنطونيوس نصر والأب رومانوس جبران، وشاركت ملائكة صغار، غُذّوا من يد الأب كوارتوس الأبيض، حيث تعلموا أن الترنيم صلاة لا صوت.
في تلك الأمسية، لم يكن اللحنُ قراءةً من كتاب، بل همسًا من السماء، وعناقًا بين الروح والكلمة. في لحظة صافية من الزمن، وقفت أبرشية بيروت، تُنشد الوفاء لرجل صامت كنور الفجر، قوي كصلاة أمّ: هنري نعيمة، المرتل الأول، الذي ما أن نطق صوته حتى توهجت الكنائس من صدى الروح.
هو الرجل الذي لقّننا الصلاة قبل أن يُعلّمنا النغمة، فكان صوته جسرًا بين ضفتين، وريحًا تعبر بنا من الحرف إلى المعنى. منذ ثمانينات القرن المنصرم، كان صوته يطوف المذابح، رقيقًا كنسمة، واثقًا كحكمة، يُنبت فينا يقينًا بأن الموسيقى ليست صوتًا فقط، بل فعل عبادة.
هنري نعيمة رجل جوقة كاملة، أنعم الله عليه بوزنات لا تصدأ، فسكبها في خدمة الكنيسة، وأعاد إلى الموسيقى الكنسية هيبتها، حين كانت الأصوات خجلى، والنغمة تتيه بين اللحن والمعنى. أطلق شرارة النهضة، فجعل من الترتيل سفينة نحو الملكوت.
ولم تكتمل اللوحة إلا حين انضم إليها صوتٌ من بلاد الإغريق، الأستاذ اسبيروس بافلاكيس، الذي حمل من اليونان نفحات بيزنطية عابقة. فامتزج صوته بصوت نعيمة، وارتفعت التراتيل بين الأرض والسماء، جسرًا من الروح إلى الروح، حتى خُيّل للسامعين أن السماء هبطت إلى الأشرفية، فصارت تلك الليلة لحنًا من نور، وشذرات من مجد.
وفي ختام العناق الروحي، وقف الأب رومانوس جبران، صانعُ الحكاية، متوشحًا بدرعٍ تقديري من إدارة المدرسة، التي ما زالت تحتفل بقيادته منذ التأسيس، وما زال هو يزرع في أبنائها نغمة الحياة.
وهكذا، من دوما إلى الأشرفية، لم تكن المسافة جغرافيا، بل امتدادُ صلاة، تحت جناح كنيسة أنطاكية العظمى. فالألحان صارت طربًا، والتاريخ مشى في الطرقات، ودوما لم تعد بلدة فحسب، بل صارت أيقونة وفاء.
في دوما، تلك البلدة المعلّقة على كتف البترون كأنها صلاة في أعالي التراب، حطّ الرحالُ راعِي الرعاة، وغبطته أثقل من الذهب حين يكون القلب وطنًا للصلاة، جاءها البطريرك يوحنا العاشر، حاملًا عبق الذاكرة ومهابة الرسالة، ليفتح بيديه بوابة وفاء، عَبْرَ افتتاح متحف المطران أنطونيوس بشير، ذاك الرجل الذي وسّع حدود أنطاكية حتى أميركا الشمالية، وترك على جدران الكنيسة أثرًا لا يُمحى، من عام ١٩٣٦ حتى ١٩٦٦.
دوما لم تكن غريبة عن المجد، فقد خبأت في حجرها سرّ الجمال، وفي سوقها تراتيل التجارة البريئة، وفي بيوتها الحجرية حكايات لا تزال تنام على وسائد من ضوء. هذه البلدة التي اختارها العالم واحدة من أجمل القرى السياحية في ٢٠٢٣، جعلت من تكريم بشير شعلةً تتقد بالحب. انبثقت الفكرة في عهد المطران الجليل جورج خضر، ونضجت بيد الخلف الأمين، المطران سلوان موسى، الذي حمل الشعلة برهافة القلب وصدق الإيمان. وسقاها أبناء دوما بدمع الحب وتراب الانتماء، حتى أينعت فكرة الوفاء متحفًا نابضًا بالذاكرة.
وعلى عتبة هذا الفرح، وقف الزمن شاهدًا، بحضور مطارنة المجمع الأنطاكي المقدّس، وإكليروس أبرشية جبل لبنان، ووفدٍ مهيبٍ من أبرشية نيويورك وأميركا الشمالية، تلك التي لا تزال تحفظ للمطران أنطونيوس بشير ما زرعه فيها من وثبات نيّرة، نقشت في تاريخها علامات مجدٍ لا تبهت، وخطّت دربًا مشرقًا للأجيال في دروب الكهنوت والخدمة.
وفيما كانت السماء تقطر مطرًا خفيفًا على دوما، أضاءت أنوارُ المجد كنيسة القديس نيقولاوس في الأشرفية. هناك، في قلب العاصمة، صدحت ملائكة الأرض ترنيمًا، تحت جناح المطران الياس عوده، راعي بيروت العتيقة والحديثة معًا. جوقتان من ذهب: جوقة طرابلس الأرثوذكسية، وجوقة القديس رومانوس المرنّم، اجتمعتا بقيادة الأب أنطونيوس نصر والأب رومانوس جبران، وشاركت ملائكة صغار، غُذّوا من يد الأب كوارتوس الأبيض، حيث تعلموا أن الترنيم صلاة لا صوت.
في تلك الأمسية، لم يكن اللحنُ قراءةً من كتاب، بل همسًا من السماء، وعناقًا بين الروح والكلمة. في لحظة صافية من الزمن، وقفت أبرشية بيروت، تُنشد الوفاء لرجل صامت كنور الفجر، قوي كصلاة أمّ: هنري نعيمة، المرتل الأول، الذي ما أن نطق صوته حتى توهجت الكنائس من صدى الروح.
هو الرجل الذي لقّننا الصلاة قبل أن يُعلّمنا النغمة، فكان صوته جسرًا بين ضفتين، وريحًا تعبر بنا من الحرف إلى المعنى. منذ ثمانينات القرن المنصرم، كان صوته يطوف المذابح، رقيقًا كنسمة، واثقًا كحكمة، يُنبت فينا يقينًا بأن الموسيقى ليست صوتًا فقط، بل فعل عبادة.
هنري نعيمة رجل جوقة كاملة، أنعم الله عليه بوزنات لا تصدأ، فسكبها في خدمة الكنيسة، وأعاد إلى الموسيقى الكنسية هيبتها، حين كانت الأصوات خجلى، والنغمة تتيه بين اللحن والمعنى. أطلق شرارة النهضة، فجعل من الترتيل سفينة نحو الملكوت.
ولم تكتمل اللوحة إلا حين انضم إليها صوتٌ من بلاد الإغريق، الأستاذ اسبيروس بافلاكيس، الذي حمل من اليونان نفحات بيزنطية عابقة. فامتزج صوته بصوت نعيمة، وارتفعت التراتيل بين الأرض والسماء، جسرًا من الروح إلى الروح، حتى خُيّل للسامعين أن السماء هبطت إلى الأشرفية، فصارت تلك الليلة لحنًا من نور، وشذرات من مجد.
وفي ختام العناق الروحي، وقف الأب رومانوس جبران، صانعُ الحكاية، متوشحًا بدرعٍ تقديري من إدارة المدرسة، التي ما زالت تحتفل بقيادته منذ التأسيس، وما زال هو يزرع في أبنائها نغمة الحياة.
وهكذا، من دوما إلى الأشرفية، لم تكن المسافة جغرافيا، بل امتدادُ صلاة، تحت جناح كنيسة أنطاكية العظمى. فالألحان صارت طربًا، والتاريخ مشى في الطرقات، ودوما لم تعد بلدة فحسب، بل صارت أيقونة وفاء.