شروط قيادة المسيحيين لحركة 14 آذار

شارل جبّور

الجمهورية

 

القيادة، وفق ما هو متعارف عليه، لا تمنح، بل تأخذ. ولانتزاعها شروط، وهذه الشروط تختلف بين أن تكون طائفية، أو وطنية و/ أو طائفية بخطاب وطني، أي أن يكون الزعيم ممثلا لبيئته من جهة، وخطابه عابرا للطوائف من جهة أخرى. وقد تكون الحالة الأخيرة التي تزاوج بين البعدين الطائفي والوطني، هي الأمثل للواقع اللبناني الراهن في انتظار اللحظة التي تتمكن فيها الجماعات اللبنانية من تجاوز الطائفية السياسية إلى الدولة المدنيّة المنشودة.

 

ومن هذا المنطلق، فإنّ من إيجابيات الانقسام بين 8 و14 آذار، أنه انقسام من طبيعة وطنية، وغير صحيح أن الحضور المسيحي داخل الكتلتين هو مجرد "تلويني" أو "ديكور" سياسي لانقسام سنّي - شيعي، لأنّ مجرد فك أحد المكوّنين المسيحيين تحالفه عن المكوّن المسلم يجعله يتراجع إلى مربعه المذهبي وبالتالي يفقده فرصة الوصول إلى السلطة، فضلاً عن أن الرأي الـ14 آذاري، على سبيل المثال، لم ينظر إلى النائب وليد جنبلاط بين عامي 2005 و2008 على أنه درزي، بل كانت النظرة إليه على أنه يشكل رأس حربة الحركة السيادية في مواجهة الطرف الآخر، وما ينطبق على جنبلاط ينسحب على كل قادة 14 آذار.

 

فأهميّة هذه التجربة أنها نجحت في إظهار اللبنانيين غير مشدودين إلى عصبياتهم الطائفية، وأن أولويتهم وطنية بامتياز. فالشارعان المسيحي والدرزي تجاوزا ظروف حرب الجبل ومآسيها مُبَدّيين الاعتبارات الوطنية التي شكلت المدخل الفعلي لطيّ صفة هذه الحرب.

 

وإذا كان تحالف المسيحيين مع آل الحريري مسألة طبيعية وبديهية، فلا يجب تبسيط نجاح الشارع الإسلامي أو بالأحرى الوجدان السني، بتجاوز كل اعتبارات الحرب والتحالف، وتحديدا مع الكتائب والقوات وليس أقل من ذلك.

 

فالمغزى ممّا تقدم أنّ هناك وعياً سياسياً لدى اللبنانيين، وأن تصويرهم كالقبائل يهدف إلى إبقاء الأزمة اللبنانية مفتوحة خدمة للقوى الخارجية، فيما باستطاعتهم حكم أنفسهم بأنفسهم وإدارة البلاد نحو الخلاص الوطني وتقديم أفضل تجربة يمكن تصوّرها.

 

وعليه، فإن المسيحيين أمام خيار مفصلي تاريخي: إما إعادة البلاد إلى السجال الطائفي من الزاوية التمثيلية على أحقيّتها، أو التأسيس على الحالة الوطنية التي شكلتها انتفاضة الاستقلال لقيادة هذه الانتفاضة والبلاد إلى شاطئ الأمان؟ واعتماد أي من الخيارين يقود المسيحيين إلى وضعيّة مختلفة عن الأخرى.

 

فالنائب جنبلاط، وأمام تهديد السلاح في 7 أيار حدّد أولويته المتمثلة في البيت الدرزي، وعلى المسيحيين اليوم أن يحددوا هم أيضا أولويتهم بين البيت المسيحي عبر انتزاع الحصة المسيحية المحددة في الدستور بإقرار مشاريع قوانين انتخابية تمكنهم من زيادة التأثير مسيحيا والتراجع وطنيا، وبين البيت الوطني الذي يجعل النواب كلهم تحت مظلتهم السياسية.

 

لقد أوقف الطائف العدّ، وهذا صحيح، إنما الوقائع الديموغرافية على الأرض ليست لمصلحة المسيحيين، والتحايل في البحث عن التقسيمات التي تمكنهم من انتخاب نوابهم لا يفيد وعمره قصير، وما يصح في هذه الدورة قد يختلف في الدورة التي ستليها في حال استمرار النزف المسيحي، ولكن الأهم أو الأسوأ هو ردّ فعل المسلمين على مطالب المسيحيين، حيث تقاطع الفريقان السني والشيعي على جملة واحدة مفيدة: نسير بأي مشروع يتفق عليه المسيحيون، وذلك بمعزل عن حسن نواياهما أو عدمه، إلا أن المقصود بأن الطرف المسيحي ظهر في هذه الحالة وكأنه يستعطي موقفاً إسلامياً للموافقة على مشروع انتخابي يمكّنه من انتخاب نوابه.

 

قال الرئيس فؤاد السنيورة في إحدى المناسبات ما معناه: نحن لا هواجس لدينا أو مخاوف كوننا لسنا بطائفة بل أمّة، وعلى المسيحيين اللبنانيين أن يقولوا أيضا نحن أباء الفكرة اللبنانية ومن يمثّلها يمثّلنا بمعزل عن مذهبه وطائفته ودينه ولونه وعرقه.

 

لم يعد بإمكان المسيحيين مقارعة المسلمين ديموغرافيا أو عقاريا أو عصبوية، أو الإدعاء بتفوقهم الاقتصادي أو العلمي أو العلاقاتي، إنما ثمّة مسألة وحيدة ما زالت بيد المسيحيين وبإمكانهم المزايدة فيها وطنيا، ومع الاحترام الكامل للمسلمين، وهي أنهم لا يتأثرون بقرار سعودي من هنا أو إيراني من هناك، مع الملاحظة أنه لا يجوز وضع طهران والرياض في منزلة واحدة، لأنّ الأخيرة يُسجّل لها اتفاق الطائف وعدم تدخّلها في الشأن اللبناني، فيما كل همّ الثانية ينحصر في إبقاء لبنان ساحة مستباحة لها، إنما هذا لا ينفي أن للسعودية أولوياتها التي لا يستطيع تيار "المستقبل" تجاهلها، فيما لا أولويات للمسيحيين خارج الأولوية اللبنانية، وليس هناك من داع للدخول في الـ"سين-سين" وغيرها ممّا سبق أو قد يلحق لاعتبارات تسوية مع إيران أو تجنّب فتنة سنية-شيعية.

 

فحبذا لو يسترد المسيحيون المبادرة بنقل السجال الانتخابي إلى الشارع الإسلامي على قاعدة اختاروا ما شئتم من قوانين، أما نحن فمشروعنا الـ10452 كلم2 وخيارنا الدولة وحدها وحصرية السلاح داخلها وطموحنا المساهمة في ترسيخ التجربة الديموقراطية العربية الفتية انطلاقا من خبرتنا وتجربتنا، وإلزام القوى الدولية والإقليمية على اختلافها، بفعل تصميمنا وإرادتنا، على عدم استخدام بلدنا صندوق بريد لرسائلها وسياساتها...

 

هناك فرصة تاريخية للمسيحيين من الحرام تفويتها. المطالبة بالحصة المسيحية ولو بخطاب وطني تظهرهم أقلويين وخائفين ومهجوسين، فيما تحديدهم للأهداف الوطنية اللبنانية يمنحهم التمثيل الذي يطمحون إليه وحبّة مسك، أي بإعادتهم طليعيين في 14 آذار، وطليعيين في الدفاع عن الفكرة اللبنانية وتثبيتها.

 

لا يجوز ترك الساحة المسيحية للمسيحيين الجدد للمزايدة مسيحياً في آخر هذا الزمان، فلهذه الجماعة أحزابها التي دفعت آلاف الشهداء على مذبح هذا الوطن، وقياداتها المتنورة التي تشكل استمراراً للتوجه التاريخي المسيحي، ورأيها العام المستقل الذي يرفض التقوقع والحمايات المشبوهة. وبالتالي آن الأوان لانتزاع القيادة في 14 آذار للعبور إلى الدولة تحت عنوان واحد اسمه لبنان، وشروط القيادة إعلاء الهدف الوطني على الاعتبارات الطائفية والسلطوية والشخصية.