كريستال النوار
خاص موقع Mtv
خمس سنوات على انفجار مرفأ بيروت، مرّت وما زلنا عالقين في اللحظة نفسها. الزّجاج والحجر الذي تحطّم وقتها، دمّر معه أرواحاً.. وليس كلّ ما يُكسَر يُرمَّم. بعض الجراح تحتاج إلى ضمادات من نوعٍ آخر، وهناك ذكريات لا يطمرها الزّمن بل تكبر وتُصبح أعمق.
هذا الوصف قد يكون الأقرب لهذه اللحظات، فالذكرى الخامسة لانفجار 4 آب لا تمرّ كأيّ تاريخ وهي ليست محصورة بهذا اليوم، تَعبُر بثقلها على النّفوس وتفتح جرحاً لم يلتئم وتُذكّر اللبنانيّين بأنّ الأضرار التي خلّفها الإنفجار لم تكن ماديّة فقط بل نفسيّة أيضاً.
كثيرون ممَّن نجوا بالجسد لم ينجوا بالعقل والرّوح. الأرق، نوبات الهلع، الكوابيس، مشاعر الذنب، والغضب المكبوت.. كلُّها علامات صامتة تُرافقنا منذ ذلك اليوم وبدل أن تُحاصرنا الذّكرى مرّة واحدة في السّنة، لا تنفكّ تُلاحقنا في كلّ صوتٍ مرتفع أو مُفاجئ وفي كلّ خبرٍ عاجل أو أنباء عن حريق كبير، وفي كلّ نافذةٍ تهتزّ من دويّ غير معروف.
هكذا يتكرّر الألم مع البحث المستمرّ عن العدالة والمُحاسبة، وعن تفسيرٍ واحدٍ لكلّ ما حدث. لكن في العمق، هناك شرخ آخر لا يُرى بالعين المجرّدة: شرخٌ في الصحّة النفسيّة الجماعيّة.
لماذا ما زالت ذكرى الإنفجار تؤلم، حتّى بعد 5 سنوات؟
في علم النّفس، الصّدمة الجماعيّة مثل الصّدمة الفرديّة، تترك آثاراً طويلة الأمد وتؤلم بعد وقتٍ طويل بسبب عوامل عدّة. والعامِل الأهمّ أنّه يُمكن أن تسبّب اضطراباتٍ نفسيّة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي يتميّز باسترجاع الذّكريات المؤلمة وتجنّب الأماكن أو الأشياء التي تُذكّر بالصّدمة، وتغيّرات سلبيّة في المزاج والتفكير وزيادة في ردود الفعل الجسديّة والعاطفيّة.
عموماً، الصّدمة الجماعيّة هي تجربة معقّدة تتطلّب معالجةً شاملة من خلال العلاج النّفسي والدّعم الإجتماعي، الذي ما زال بعيد المنال بالنّسبة لشريحة كبيرة من المواطنين بسبب التّكاليف المُرتفعة. كما لا بدّ من إتاحة الفرصة للأفراد للتعبير عن مشاعرهم والعمل على استعادة شعورهم بالأمان والسيطرة، لكي يتمكّنوا من السّير في طريق التّعافي.
ومنذ لحظة الإنفجار، باتت هذه الفترة من السّنة تُذكّرنا بأنّ المُحفّزات ليست دائماً ظاهرة ويُمكن للدّماغ أن يتفاعل مع الصّوت والرائحة والتّاريخ أو مع الأخبار، حتّى من دون التّفكير في الإنفجار نفسه. هذا ما يُسمّى بالذّاكرة الضمنيّة، حيث يتذكّر الجسم ما يُحاول العقل نسيانه وهنا يُعاني البعض من عوارض نفس-جسديّة قد لا يفهمها أحياناً.
إذاً، الصّدمة الجماعيّة حقيقيّة، فحتّى مَن يعيش خارج بيروت شعر بالتأثيرات نفسها، خصوصاً أنّ الألم المُشترك ينتقل عبر القصص ووسائل التواصل الاجتماعي والعوامل الإجتماعيّة والظّروف التي نعيشها جميعاً في الوطن نفسه. وما يُعزّز هذا الشّعور هو طبيعة البعض في ما يتعلّق بتأخّر شعورهم بالحزن، فهناك مَن لم يشعر بشيء وقت الإنفجار أمّا الآن فهو يُعاني بصمت.
ماذا عن التّعافي؟ تحتاج الصّدمة إلى الأمان للشّفاء منها. ولكن كيف يُمكن للمُجتمع أن يشعر بالأمان عندما يفقد الأمل بالمُحاسبة والعدالة؟
في الذّكرى الخامسة لتفجير المرفأ، لعلّ الوقت حان لنعترف بأنّ التّعافي يبدأ من الإعتراف بالواقع ومواجهته وعدم الهروب منه. من هنا، تأتي المُطالبة بالعدالة ليس فقط من أجل الحقيقة بل أيضاً للتمكّن من التّعافي والتحرّر من هذه الصّدمة العابرة للأجيال.