جوزيف حبيب
نداء الوطن
اختفت كلّ الشعارات الديماغوجية عن تراجع الديمقراطية الأميركية، وسقط التهويل اليساري بتحوّل البلاد نحو الاستبداد والديكتاتورية بسرعة فائقة مع تحقيق الحزب الديمقراطي انتصارات غالبيّتها كانت متوقعة إلى حدّ كبير، في مدينة نيويورك وولايات فرجينيا ونيوجيرسي وبنسلفانيا وكاليفورنيا. برهنت انتخابات الثلثاء، مرّة أخرى، أن الولايات المتحدة قادرة على خوض استحقاق انتخابي حرّ بطريقة حضارية، رغم الاستقطاب السياسي العميق والديناميكيات السوسيوثقافية والعرقية المعقدة، وهذا بحدّ ذاته علامة فارقة تميّز دول "العالم الحرّ" عن الدول التافهة، ما يجعلها وجهة المهاجرين المفضلة، بينهم أولئك الذين يكنون العداء الأعمى للقيم الغربية. الملف الذي ساهم بشكل رئيسي بعودة ترامب إلى المكتب البيضوي، كان هو العامل الأساسي بفوز الديمقراطيين، ألا وهو الاقتصاد والتضخم وتكاليف المعيشة، وسط إغلاق حكومي استحال الأطول في تاريخ البلاد وارتدّ سلبًا على الجمهوريين.
ينبغي على الرئيس ترامب الاستفادة من الدرس بالغ الدلالة، والعمل على أساسه قبل عام من انتخابات التجديد النصفي قد يخسر فيها الحزب الجمهوري غالبيّته في مجلسَي الكونغرس، إن لم تحسن إدارة ترامب معالجة القضايا الاقتصادية الجوهرية التي تمسّ الحياة اليومية لذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى. صحيح أن ليلة الثلثاء كانت استثنائية بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي الذي كان لاهثًا خلف انتصار يعيد له الأمل المفقود منذ هزيمته المدوّية في انتخابات 2024، بيد أنه يقف أمام تحدّيات متشعّبة، تبدأ بتنظيم صفوفه ولا تنتهي بابتعاده من الأجندات اليسارية المتطرّفة، التي تفرض نفسها ببعض المدن الليبرالية كنيويورك، إنما ليس بمقدورها الوصول بعيدًا على الصعيد الوطني.
يشكّل فوز اليساري الشعبوي زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك، نصرًا بطعم الخسارة لـ "حزب الحمار" وتأكيدًا أن أميركا أرض الفرص والأحلام، حتى لمبغضيها الذين يبغون تحويلها إلى دولة تشبه تلك "الأمكنة الموبوءة" التي فرّوا منها. ممداني، الشاب الكاريزمي الذي يمتهن التقيّة بمكر قلّ نظيره لإخفاء "وجهه الإسلامي" والتكيّف مع محيطه، يجسّد تحوّلًا خطرًا تشهده بعض قواعد "الحزب الأزرق"، لن يصبّ في مصلحته في الاستحقاقات الكبرى. لن تترجم "هلوسات" ممداني الأيديولوجية على أرض الواقع بالطريقة التي تحلو له، لكن معضلة النيويوركيين تكمن بأنهم سيعانون من فشل ممداني المرتقب في سعيه إلى الدفع ببرنامجه الخيالي في "عاصمة المال" العالمية، إلّا إذا اختار نهجًا براغماتيًا سيؤدّي إلى نسف "وعوده الساحرة" بطبيعة الحال. والإخفاق هنا مكلف وشبه محتم، فهذه التجارب أثبتت عقمها وعجزها عن اجتراح حلول فعلية للمشكلات المطروحة، بل أغرقت مجتمعاتها بأزمات مضاعفة.
اختار من سيصبح في كانون الثاني المقبل، أوّل عمدة مسلم وأوّل عمدة مولود في أفريقيا، لنيويورك، تصعيد مسار المواجهة مع ترامب في "خطاب النصر"، الأمر الذي يدلّ على "مراهقة سياسية" كاملة الدسم، بينما لن يبخل الرئيس الجمهوري بردّ الجميل له مستقبلًا بخفض المنح والتمويل الفدرالي، إذا ما غابت التسويات. لا يمكن إغفال أن المرشح الأقوى في مواجهة ممداني، هو الحاكم الديمقراطي السابق للولاية أندرو كومو، الرجل غير المحبوب والموصوم باتهامات تحرّش جنسي. ورغم أن ممداني لم يواجه مرشحًا قويًا، إلّا أنه اكتفى بحصد 50.4 في المئة من نسبة المقترعين، وكان ليُهزم لو لم يتمكّن من حشد العدد الكافي من الناخبين الجدد المناصرين له.
تنتظر ممداني مسيرة صعبة مليئة بالألغام في مدينة فسيفسائية تضمّ جاليات وثقافات مختلفة، ولا سيّما الجاليتين اليهودية والإسلامية. وبحسب استطلاع لرأي الناخبين لوكالة "أسوشييتد برس"، فقد حصل ممداني على أصوات نحو 90 في المئة من المقترعين المسلمين و33 في المئة من اليهود، فيما حصد كومو 63 في المئة من أصوات اليهود و7 في المئة من المسلمين، ما يظهر الانقسام العمودي على أساس الانتماء الثقافي/الديني، علمًا أن حوالى نصف الناخبين اليهود والمسلمين قالوا إن مواقف المرشحين من إسرائيل كانت "عاملًا رئيسيًا" في تصويتهم.
يريد الديمقراطيون البناء على نتائج انتخابات حاكمَي فرجينيا ونيوجيرسي، حيث قدّم الحزب المشرذم، الذي شرع باستعادة عافيته الشعبية ويهدف إلى استثمار حصيلة انتخابات الثلثاء سياسيًا، مرشّحتين وسطيتين نجحتا في انتزاع انتصارين صريحين، بدعم هائل من الناخبات دون الثلاثين عامًا. "الرياح المعيشية" المعاكسة للحزب الحاكم، أطاحت مرشّحيه وسط نقمة أصحاب "الجيوب" المستنزفة، تُرجمت بوضوح في صناديق الاقتراع في ولايتين ليس غريبًا عليهما محاسبة قاطن البيت الأبيض في انتخابات حاكميهما، علمًا أن الحكومة الفدرالية توظف عددًا كبيرًا من سكّان فرجينيا، ما سمح للإغلاق الحكومي بتعزيز حظوظ الديمقراطيين، بتصويت الناخبين العقابي ضدّ الجمهوريين.
ليس مستبعدًا أن يُدخل ترامب تعديلات على سياسته الاقتصادية، التي وللمفارقة لطالما كانت من أبرز مكامن قوّته وعلامات نجاحه. بعث الناخبون برسالة إلى ترامب بعد أكثر من 9 شهور له في المكتب البيضوي، ورهان "حزب الفيل" أن يُحسن الرئيس الجمهوري تلقف فحوى الرسالة، إذ تتوافر أمامه فرصة لتصحيح الوضع قبل الانتخابات النصفية العام المقبل. إلقاء اللوم على الديمقراطيين بالإغلاق الحكومي وبرمي العصي في الدواليب، لن يؤتي ثماره. الجمهوريون بحاجة إلى تحصين ساحتهم وتصحيح تراجعهم في أوساط الأقليات العرقية وتقديم نموذج سياسي وتشريعي ناجح أمام الناخبين الشباب.
يخطّط الديمقراطيون للفوز في انتخابات 2026 لتكبيل يدي ترامب وتقويض أجندته المحافظة، واعتماد تلك الانتخابات النصفية كمحطة تؤسّس لهم أرضية شعبية متينة للانطلاق منها نحو انتخابات 2028، في حين يطمح الجمهوريون إلى الحفاظ على غالبيّتهم في الكونغرس وانتزاع ولاية رئاسية جمهورية جديدة. بدأ الديمقراطيون تسجيل النقاط مغتنمين الأحوال العامة المؤاتية لتحقيق مكاسب كمعارضين للحكم. كان الديمقراطيون أكبر الرابحين الثلثاء، في وقت تلقن فيه الجمهوريون درسًا معبّرًا في "الصناديق الغاضبة"، قد يكون مفيدًا لهم إن استخلصوا عبره جيّدًا.