كثر الحديث مؤخراً عن الدولة المدنية. لم يعد الموضوع حكراً على رواد ونشطاء المجتمع المدني، بل إمتد الى أركان الدولة وأهل السياسة التقليدية حتى بات كل من زعماء الطوائف الحاليين ينادي بها.
لا نقولها من باب التشكيك. طبعاً لا. انما حرصاً على هذا المصطلح وخوفاً من أن "يلبنن" على طريقة ما لبننت مصطلحات أخرى من "ديمقراطية توافقية"، و"شرعية ميثاقية"، و"اكثرية" و"أقلية" ألى ما هنالك من مصطلحات استوردت من قواميس العلوم السياسية والقانون الدستوري فدخلت الحياة السياسية اللبنانية وشوهت، وبدل ان تفعل فعلها في تجليس الإعوجاج من حيث تقديم المعايير للإصلاح، تحولت إلى شعارات في لعبة صراع الطوائف.
نعم القيادات السياسية كلها نادت مؤخراً بالدولة المدنية، ولكن المفارقة الكبيرة هي أنهم نادوا بها وهم قابعون على أحزاب وتكتلات طائفية. مرة أخرى لا نقولها من باب التشكيك لا بل على العكس. حسن أن ينتقد زعيم الطائفة الطائفية وحسن جداً أن يقوم من موقعه القيادي بالعمل على إخراج طائفته من حالة التقوقع الطائفي الى فضاء المواطنة الواسع. حتى لو كان الأمر وسيكون الأمر على حساب مصالحه الإنتخابية الضيقة طالما أن النظام الإنتخابي طائفي. ولكن أجره في السماء سيكون كبيراً وعلى الأرض أيضاً ساعة يصير عندنا قانون انتخابي عصري يساوي ما بين المواطنين من حيث الترشح والإقتراع.
نعم الدولة المدنية أكثر من شعار. الدولة المدنية تقوم على قيم ومؤسسات. اولى هذه القيم هي الشراكة الحقيقية والمساواة الحقيقية بين مكونات المجتمع، هذا يتطلب تنازلاً بالتساوي من قبل الجميع. فلا خصوصية لهذا وهواجس لذاك. ولنقلها بصراحة مشروع الدولة المدنية لايمكن أن يقوم على غير قاعدة المساواة خارج إطار الشراكة الحقيقية. أعباء الدولة المدنية لا يمكن أن تحملها طائفة دون أخرى.
نقول هذا الكلام لأننا نخشى لبننة الدولة المدنية فتصبح شعاراً أو غطاءً يطرحه البعض لمواجهة هواجسه الديمغرافية وهو يتوجس من ارتفاع أعداد الشريك الآخر ومن نمط حياته ألإجتماعية، ويطرحها البعض ظانناً انها العنوان اللآخر للديمقراطية العددية التي تفيد آنياً مصلحة طائفته. وهناك من يطرحها من باب الإبقاء على الإستاتيكو أي الجمود وحفاظاً على صلاحيات ورقية نصها الدستور ولكنها لم تؤسس لا الى أستقرار ولا الى سلام مجتمعي. كل هذه الهواجس هي هواجس طائفية تتستر خلف عنوان الدولة المدنية وهي في الواقع تعيق لا بل تمنع بناءها.
ولكي لا تستفحل بنا هذه الهواجس وتدفعنا بإتجاه الحرب، الباردة أو الساخنة، ولكي لا تتحول الدولة المدنية إلى شعار تغطي هذه الحروب يجب التذكير أن الدولة المدنية ترتكز على مؤسسات : أولها قانون مدني للأحوال اشخصية يشمل بالتأكيد الزواج المدني الإختياري، وثانيها نظام تربوي إجباري تلتزم به كل مدارس لبنان يشمل قراءة نقدية للتاريخ اللبناني وللحرب اللبنانية و ربما كتاب للتعليم ديني نعم ولم، كتاب يعرض قيم و تعليم كل من الديانات السماوية بشكل يقرب من الأديان بدل أن يفرقها. وثالثاُ قانون إنتخابي يؤسس لمساواة ما بين المواطنين في خدمة الناخب والمرشح وليس في خدمة الزعيم ، قانون يطيح بهذه البدعة التي تسمى اللائحة والتي هي ركيزة المنظومة الطائفية.
هذه هي القيم والمؤسسات التي ترتكز عليها الدولة المدنية فكل كلام خارجه يبقى شعاراً لا يفي بالغرض إنما بعكسه تماماً.
twitter:@saminader