هكذا دخل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قصر الإليزيه، وهكذا تعرّف إليه العالم، رجلاً جديداً ملأ المجد قلبه فملأ الشاشات وربما قلوب معظم الفرنسيين.
ماكرون يعرف، ويجب أن يعرف، أن فرنسا الديموقراطية لم تعرف سوى ملك واحد عسكري وديموقراطي في آن، هو الجنرال شارل ديغول الذي كان يردد قول شاتوبريان: لقد مات نابوليون وبدأت الأسطورة، كما ويعرف عن ديغول أنه كان أسطورة ومات.
لقد تجلّت الديموقراطية الفرنسية بأبهى حللها وصورها، وانحنى العالم إجلالاً أمام روعة مشاهدها تنظيماً ولباساً وعزفاً وتمجيداً، لدرجة خجل سائر الديموقراطيات منها…
مَنْ تابع وقائع الاحتفال الكبير، لاحظ أن إلمام الرئيس الجديد في السير - ولو كان بطيئاً بعض الشيء - وفي السلام - باستثناء بعض التربيتات غير المناسبة - وفي الخطاب والصوت الجهوري، لا يتقنه سوى رئيس متمرس خارج من القصر وليس داخلاً إليه.
ولكن، يقول الزعيم كمال جنبلاط في كتابه أدب الحياة إن على الإنسان أن يعلم أنه عندما يفرح بشيء أو لشيء، فإنه إذا تنبّه تماماً، يرى أن في حال الفرح، في ساعة نشوة السعادة، يكون الفكر فيه متوقفاً تماماً عن النشاط، عن العمل، آذناً لنعيم ذاته بأن يتجلى… ويلحظ أيضاً آنذاك أن "الأنا" الانانية الظاهرة، التي تدّعي فيما بعد أنها تمتعت وفرحت، لم تكن موجودة وقائمة وقت وقوع التمتع وحصول الفرح… وهو أمر لا شك فيه.
إن الرئيس الفرنسي الجديد، يعرف رغم أنه من الحداثة وُلد وترعرع ولها عَمِل، إن الحضارة هي في مأزق لأنها لا تتلاءم مع حقيقة كيان الإنسان.
يقول الكسيس كاريل: لقد بُنيت هذه الحضارة من دون معرفة طبيعتنا الحقيقية، فهي ناجمة عن مصادفات الاكتشافات العلمية، واستشهادات البشر وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وبالرغم من أننا نحن الذين شيّدناها فإن هذه الحضارة ليست على قياسنا.
هل هذا ما قصده ماكرون عندما قال إن فرنسا تفتقد روح الملوك؟.
ممكن. فالرجل ذكي وفرنسي في الصميم، ويدرك أن الناس عندما تزور بلاده لا تنظر الى السيارات والطائرات والالكترونيات، فهي أصلاً موجودة في بلادها، ولا الى جهل الفلاسفة وفلاسفة الجهل، بل تنظر الى ما صنعه الملوك والمفكرون والفلاسفة الحقيقيون.
من يقصد فرنسا، لا يهتم بقشورها بل بعمقها الثقافي والتاريخي، ولا يفكر برجالاتها الجدد، بل يستذكر نابوليون وعقده الاجتماعي وحكمه رغم ويلات حروبه.
في تلك المرحلة، قبل إطلالات مارين لوبان ووالدها، وسائر سياسيي ما بعد شارل ديغول، كانت قصائد فيكتور هوغو وروائع جان جاك روسو، وشاتوبريان، ولامارتين وفولتير ووراسين، وبودلير… كان تاريخ فردان وجان دارك وكليمنصو.
في تلك المرحلة، لم يكن الشذوذ موضة، ولم يكن نهر "السين" خزاناً للرغوة بل دفّاقاً للحب وملهماً للرسم والخلق والإبداع، ولم تكن شوارع باريس وأزقتها بحاجة الى هذا الكم الهائل من رجال الأمن.
يستطيع ماكرون أن ينجح حيث فشل أسلافه بجمع جمهور مارين لوبان، اليمين واليسار حول العزة التي جسدها ديغول، والاقتصاد الذي أرسى دعائمه جورج بومبيدو، والوسطية المقبولة التي فعّلها فاليري جيسكار ديستان، والقوة الأوروبية التي حلم بها فرانسوا ميتران، والقوة الفرنسية التي حاول جاك شيراك أن يسترجعها، والديناميكية في أداء نيكولا ساركوزي، والقرار الشجاع الذي اتخذه فرانسوا هولاند في عدم الترشح لولاية ثانية.
قال له رداً عن سؤال: "انشغالات؟ الله يعلم، كم لدي منها، أما انشغال البال فليس لدي مطلقاً… الفرنسيون ضجروا، وهذه وسيلة لهم لكي يعبّروا عن مزاجهم العكر".
المهم أن يصفو مزاجهم قبل حزيران المقبل، موعد الانتخابات التشريعية التي ستحدّد المسار الذي سيسلكه إيمانويل ماكرون.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك