لا تلمح على باب مدخل مقرّ رئاسة مجلس النواب في عين التينة عبارة "لو دامت لغيرك لما آلت إليك". هي دامت لنبيه بري، كما يبدو. سواء كان الفوز في الانتخابات النيابيّة المقبلة لهذا الفريق أو ذاك، فإنّ الثابت الوحيد هو أنّ بري باقٍ على رأس مجلس النواب، معزّزاً الرقم القياسي العالمي كأقدم رئيس برلمان في العالم.
خطا رئيس مجلس النواب نبيه بري يوم السبت خطوة لافتة، بتحريضٍ واضح من صهره أيمن جمعة والزميل سالم زهران. جلسة مع إعلاميّين ومقدّمي برامج وناشطين سياسيّين على مواقع التواصل الاجتماعي. العدد فضفاض قليلاً، لكنّها تبقى خطوة مهمّة يمكن البناء عليها.
لم يفقد ابن التاسعة والسبعين شيئاً من شباب الموقف وسرعة البديهة وقطف الكلام وتوجيه الرسائل، مباشرةً أو بين السطور. هو قال "ما رح جاوب عن جبران باسيل" حين سأله زميلٌ عن رأيه بأدائه. يغني النفي عن كلامٍ كثير. كان باسيل مشاركاً في اللقاء من دون أن يحضر. ذُكر مراراً على لسان بري والزملاء، ومن بينهم زميلة استنتجت وجود إجماع على كره باسيل، وناشط على مواقع التواصل اشتكى من شكوى باسيل القضائيّة عليه. الزميلة من "المستقبل" والناشط مقرّب من حزب الله، وباسيل يجمع التناقضات، ولو أنّ المنافسة تأتيه من أقرب المقرّبين. من وزير الطاقة سيزار أبي خليل الذي ذُكر مراراً أيضاً على لسان بري وضيوفه.
يعرف نبيه بري مقولة الأديب ميخائيل نعيمة "عجبت لمن يغسل وجهه مرّة في النهار ولا يغسل قلبه ولو مرّة في السنة"، وهو قالها مرّةً في مقابلة مع "الحياة". يبدو واضحاً أنّ بري غسل قلبه في ما يخصّ العلاقة مع رئيس الجمهوريّة. يشدّد على علاقته الممتازة به، ويشرح سبب دعمه خيار سليمان فرنجيّة. ولكن، في مقابل تحييد الرئيس ميشال عون، لا يتردّد في إطلاق النار على بعض من حوله، بكلامٍ يشبه حدّة ضرب مطرقته.
لكنّ الضرب بالكلام لا يلغي خفّة دم "الأستاذ" الذي يسرق من متابعه الجدّ والضحك في آن. وهو بارع في الإثنين كمثل براعته في السياسة.
كان نبيه بري لاعباً على مسرح الثمانينات المشتعل، وقد حملت أكثر من محطة بصمته الواضحة، أبرزها 6 شباط 1984، التي سمّاها البعض انتفاضة، والبعض تقسيماً للجيش. كان، حرباً، أحد رموز الحرب على المارونيّة السياسيّة، وأصبح سلماً الرمز الأول للشيعيّة السياسيّة، يتمدّد في الإدارات والأجهزة الأمنيّة وفي التعاونيّات والمؤسّسات العامة، والجمارك والمطار والوزارات والمجالس والصناديق والاتحادات الرياضيّة...
الرجل الذي قاد حركة "المحرومين"، خلفاً للإمام موسى الصدر، نجح في إيصال طائفته الى قصر المهاجرين في دمشق، حيث نسج مع ساكنها ثمّ مع خلفه علاقة ثابتة، تماماً كما أوصلها الى الرئاسة الثانية، التي غالباً ما تزاحم الأولى وتتقدّم عليها في بعض المحطات. ونجح، أيضاً، في كسب ثقة إيران من دون أن يعادي السعوديّة، حتى في عزّ المواجهة الحامية بين الدولتين. وكان "الأستاذ" أميراً في الحرب وضابط إيقاع الحياة التشريعيّة في السلم، ولا يُكتب تاريخ لبنان من دون التوقّف طويلاً عند اسمه.
استمرّت الجلسة مع رئيس المجلس النيابي حوالي الساعة والنصف، مرّت برشاقة وانتشر مضمون مواقفه فيها عبر وسائل الإعلام. وبعد الكلام، كان لا بدّ من صورٍ تذكاريّة، ومع كلّ صورة "قفشة"، لأتذكّر، وأنا خارج من عين التينة، بيتاً من الشعر سمعته من صديق بري الدائم، الوزير السابق جان عبيد: ألقاب مملكةٍ في غير موضعها، كالهرّ يروي انتفاخاً قصّة الأسد.
في هذه الجمهوريّة، قليلون من هم مثل نبيه بري، يروون "قصّة الأسد" من دون أن يكونوا هرراً منتفخين...
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك