في ما كان ينبري الفساد متسللاً شيئًا فشيئًا إلى أحضان الدولة، وتاليًا أعضائها والقصد هنا الدولة "العميقة" في لبنان، كان زعماؤها التقليديون، منذ عقود من الزمن، يروّجون لفكرة المؤامرة التي تجد في مثل هكذا دولة بيئة ومناخًا مناسبين لكمّ أفواه الساخطين عليها وعلى الأنظمة المتعاقبة على الحكم، والمستمدة من فكرة واحدة موحّدة لا لبسَ فيها مفادها: "يجب أن تفخروا وتتباهَوا أن لبنان ذاك البلد العربي الوحيد، بمحيطه، ينعم بنظام سياسي واقتصادي حرّ دونًا عن سواه في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج.
وهمٌ، للأسف الشديد، راود ولا زال يُمعن غلواءً بسحق روح الانتفاضة، وصولاً الى الثورة المنشودة من قبل معظم اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ومذاهبهم وطوائفهم.
لكن مهلاً!
لماذا تفشّت هذه الظاهرة بسرعة النار في الهشيم؟!
ومن المسؤول عن تلك الآفة والمعادلة القذرة التي باتت تشكّل ثقافة حياة مقززة تنبىء بانبطاح واستسلام غير مسبوقيْن أمام جحيم استمرارية الحياة؟
هل بتنا قطعانًا نعترف ونقرّ بهذه الصورة النمطية القائمة على تأمين القوت اليومي ولله الحمد؟
أمام هذه المشهدية، لا بد من إجراء قراءة نقدية حول مفهوم الديمقراطية التي يتغنى بها اللبنانيون، وهي في غالبها ديكتاتورية ملتحفة بهوامش شبه ديمقراطية.
سنعرض في عجالة أبرز الأوجه والمعالم التي ظُنّ للبعض أنها جنّات، في حين يحيطها جحيم الانصياع والإملاءات الديكتاتورية:
• حزبيًّا، هنا حدث ولا حرج، إذ تغالي معظم الأحزاب اللبنانية الكبرى برفعها لشعارت الديمقراطية والاصلاح والتغيير وسواها. ولكن في نهاية المطاف تعيد إنتاج نفسها انطلاقًا من مبدأ المقعد العائلي وتوارث الكرسي "المعظّم".
• دينيًّا، من منّا لم يشهد مسلسلات التنكيل والتظاهرات التي جابت الشوارع والمناطق بعيْد توجيه انتقاد أو معارضة رأي أيّ رجل دين، على اختلاف الطوائف، وهذا ما يمكن وصفه بالعبودية الطوعيّة. إلا أن اللافت في الأمر، وقوف رجال الدين الى جانب الطبقة التي ينتقدونها، في أبرز المحطات والتحولات السياسية في لبنان، دون اكتراثهم لما يفعلونه بشؤون البلاد والعباد. مع الأخذ بعين الاعتبار بعض المواقف المشرفة والحميدة لقلة قليلة منهم.
• انتخابيًّا، قد لا يختلف اثنان ان القوانين الانتخابية، منذ الاستقلال حتى اليوم، تتسم بالطائفية ومغلّفة بالمذهبية المقيتة. والتي تعيد إنتاج الوجوه ذاتها والأسوأ من ذلك، أنه في حال، مناهضة انتخاب زعماء الطوائف لهذه البلدة او تلك القرية، ينطلق مسلسل التنمّر والإساءة ليبلغ حدود التشهير والنفور.
• إعلاميًّا، لطالما تميّز لبنان بحريته الإعلامية، والتي غالبا ما كانت أسيرة الفوضى والإساءة لأخلاقيات المهنة. بحيث هامش الحرية يتسع ويضيق وفق مصالح التمويل الداخلي أو الخارجي.
• خارجيًّا، غالبًا ما خضعت الطغمة السياسية لاملاءات وقرارات خارجية، قسرًا أو طوعًا، للحفاظ على مصالحها الإنتخابية والسياسية والمالية. ولعلّ تأنيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي بلغ حدود الإهانة، شكّل أحدث محطاته.وهذا ما يُبرز الموروث الثقافي الجماعي القائم على الانبطاح والانسحاق الخالصيْن.
من المعيب التباهي والتعالي بأوهام ممارسة الحرية في دولة بعيدة كل البعد عن مفاهيم التحرّر، خصوصًا بعدما تحوّل لبنان إلى سجن بحدّ ذاته تغيب فيه الحقوق الدنيا من متطلبات البنى التحتية الأساسية من كهرباء ومياه وتعليم وضمان صحي واجتماعي...
عايش اللبنانيون شتى أنواع الديكتاتوريات، دون إدراكهم لتداعيات الظُلم اللاحق بهم. وذلك مردّه لسببين اثنين إما اصابة جزء كبير منهم بمتلازمة ستوكهولم، حيث نرى السجين يتعلّق بسجّانه، أو لقناعته بعجزه عن إحداث أي تغيير.
وفي كلتا الحالتين، تمددت الممارسات القمعية لتنتهي بطرد جزء كبير من ساحات الحراك ليبقى عدد ضئيل، يراهن بالغالي والنفيس، بغية مناهضة الطغاة والدفاع عمّن يرى ويسمع ولا يحرّك ساكنًا!
في الختام، لا يظنّن أحد أنالديمقراطية كان ذات يوم تلوح حتى في الأفق. إذ يجب الاعتراف أن أباطرة الزعامات فسحوا في المجال، أمام اللبنانيين هوامش افتراضية، قد تكون واسعة أو ضيقة، لكن مداها تجلّى، في أقصى طموحاته، زوبعة في فنجان من صال وجال وخيّر لا بل دفع باتجاه ديمومة عناء البقاء أو الفناء، ضمن محور محاك بعناية خاصة ينطوي على نهايات معروفة مسبقًا.
هل يتقبّل اللبنانيون حجم هذا الهراء الذي يدور في فلكه أم أنه سيكابد الوقت لصوغ بدايات جديدة تعكس مفهوم دولة القانون والمؤسسات. دولة الحق والعدل. دولة الإنسان؟!