انطوان نجم يكتب: أعربيّ لبنان أم غير عربيّ؟
16 Dec 202106:22 AM
انطوان نجم يكتب: أعربيّ لبنان أم غير عربيّ؟
أنطوان نجم

أنطوان نجم

كتب انطوان نجم في موقع mtv:                       

أعربيّ لبنان أم غير عربيّ؟
إنّه سؤال كان يقتضي ألّا يُطرح على هذا النحو أصلًا، لأنّه طرح خاطئ للمسألة. وقد سبّب نقاشًا لا حول له ولا مخرج. وسيبقى كذلك ما بقي على صيغته. 

الحلّ الوحيد الصحيح هو في تصويب السؤال. وتصويب السؤال يحتّم تحديد المقصود بـ"لبنان" في الخلفيّة الفكريّة عند الفريقَيْن.
​إنّ المقصود بالخلفيّة الفكريّة هو "شعب لبنان". فلو أنّ المقصود هو دولة لبنان فحسب لكان الأمر محسومًا منذ زمان. أو أقلّه، منذ دخول الدولة اللبنانيّة جامعة الدول العربيّة. إذْ كيف يعقل ألّا تكون دولةُ لبنان "عربيّةً" وهي عضو مؤسّس في هذه الجامعة؟
​المقصود بالخلفية الفكرية هو، إذًا، "الناس" في لبنان، من الزاوية السوسيو-ثقافيّة لا الجنسيّة، لما لهذا الأمر من تأثير مباشر في شكل الدولة اللبنانية الدستوري ومبرِّرٍ له، وعلى إيديولوجية القوميّة العربيّة فالوحدة العربيّة، إيجابًا أو سلبًا. أيْ إنّ القول بأنّ اللبنانيّين شعب متجانسٌ وعربيٌّ (بالمعنى القوميّ)، والإقرار بهذا القول، ينعكس، منطقيًّا، شكلًا دستوريًّا بسيطًا على الدولة اللبنانيّة، وانسجامًا والدعوة إلى الوحدة العربيّة. أمّا القول بأنّ اللبنانيين مجموعتان متباينتان سوسيو-ثقافيًّا، والإقرار بهذا القول، ينعكس، منطقيًّا أيضًا، شكلًا دستوريًّا مركّبًا للدولة اللبنانيّة، وتعارضًا صريحًا والدعوة إلى الوحدة العربيّة. 
​ من هذه الزاوية، خصوصًا، ينبغي أن نفهم البُعد الخلافيّ. 

​فالخلط بين النظرة القانونيّة إلى الدولة والنظرة السوسيو-ثقافيّة إلى الناس في الدولة، أو التماهي بين الدولة وناسِها، هو في أساس اللّغط الذي عانيناه ونعانيه. وسيبقى الخلاف قائمًا ما لم يتمّ التمييز بين المفهوم القانونـيّ والمفهوم السوسيو-ثقافيّ، وما لم يتمّ الإقرار العامّ بالبِنية التحتيّة المجتمعيّة التعدّديّة في لبنان.
الشعب في لبنان مجموعتان، لكلّ منهما هويّتها المجتمعيّة المتمايزة. أمّا الدولة اللبنانيّة فعربيّةالطابَع بحكم لغتها الرسميّة، واعتماد أهليها هذه اللغة كتابةً، وهويّة مسلميها المجتمعيّة، وتصوّر الخارج الدوَليّ لها، وخيارها في دخول جامعة الدول العربيّة كي يقبل المسلمون باستقلال الكيان اللبناني. 
​وإذا أضفنا إلى المعطيات أعلاه موقعَ الدولة اللبنانيّة الجغرافيّ وتأثيراته على امتداد الدولة، تكشّفتْ لنا مصلحة لبنانيّة طبيعيّة عامّة وعليا في ضرورة الارتباط الوثيق بين "الدولة اللبنانيّة" والعالم الإسلاميّ العربيّ، ومشاركتها هذا العالَم همومه وأمانيه.
​إنّ طابَع لبنان ليس عربيّا فحسب. دولة لبنان ذات طابع إسلاميّ ومسيحيّ معًا، أيضًا. 
​طابَع دولة لبنان إسلاميّ بحكم هويّة أبنائها المسلمين. لهذا السبب، تكون هذه الدولة عضوًا تلقائيًّا في "مؤتمرات الدول الإسلاميّة"، والتي من واجبها أن تشترك رسميًّا، وعن حقّ، فيها.
​وطابَع دولة لبنان مسيحيّ بحكم هويّة أبنائها المسيحيّين. وعلى هذا الأساس يكون من حقّها، ومن واجبها، أنْ تدعو إلى مؤتمرات مسيحيّة، وأنْ تُدعى إلى المشاركة في مثل هذه المؤتمرات. علمًا بأنّ الدولة اللبنانيّة لم تتمثّل، حتى الآن، باعتبارها دولة ذات طابَع مسيحيّ.
​فطابَع الدولة اللبنانيّة المسيحيّ يضيف إليها صِبغة خاصّة بالنسبة إلى محيطها. وبهذه الصِبغة تمايَزَ لبنان في الواقع. وهكذا نُظر إليه. ولولا هذه الصِبغة المسيحيّة لكان لبنان دولة إسلاميّة عربيّة، على غرار سائر الدول الإسلاميّة العربيّة. 
​فالاقتصار على اللغة العربيّة (الفصحى) وعلى هويّة مسلمي الدولة اللبنانيّة في فهم حقيقة هذه الدولة، وفي تحديد طابعها، أمر غير موضوعيّ البتّة. الصفة العربيّة وحدها لا تحتكر وجود الدولة اللبنانيّة، وبالتالي، لا تحتبس في طابَعه.

​تكمن ميزة الدولة اللبنانيّة في نوعيّة الحضور المسيحيّ التاريخيّ فيها. ولولا هذه النوعيّة لما كان لدولة لبنان القائمة من وجود.
​إذًا، طابَع الدولة اللبنانيّة "عربيّ-مسيحيّ-إسلاميّ". أيْ ثلاثيّ الأبعاد ولكن من غير انصهار. هذا هو طابَعُها الحقيقيّ، وإنْ اكتُفيَ، واكتفينا عمومًا، بعبارة "لبنان دولة عربيّة"، اختصارًا واستسهالًا. 
​وبالمناسبة، إنّ الاستمرار في استعمال لفظة "عروبة" يزيد في البلبلة الفكريّة والسياسيّة التي تحكّمت وتتحكّم بنا. 
​ليس معنى العروبة محصورًا في الارتباط اللغويّ بين الناطقين بالضّاد وفي التضامن والتكافل في ما بينهم. لو أنّ للعروبة هذا المعنى لما كان لنا عليها أيّ اعتراض.
​في الحقيقة، عُرّفت العروبة بأنّها تيّار وطنيّ-سياسيّ يهدف إلى إقامة وحدة دستوريّة لمناطق العالم الإسلاميّ العربيّ، بغية جعله دولة واحدة. هكذا فَهِمها مَن تلقّفها بعد انهيار السلطنة العثمانيّة. وهكذا يفهمها العروبيّون، في الوقت الحاضر، وينادون بها ويدعون إليها. إنّها العروبة القوميّة أو القوميّة العربيّة. وهي إسلاميّة الشكل والمضمون والتطلّع، في طبيعتها وكنهها، وعلى ما تكشف عن نفسها. وستجعل الدولةُ العربيّة العتيدة غيرَ المسلمين فيها مواطنين من درجة أدنـى: "أهل ذمّة"، عمليًّا وواقعيًّا. وهذا أمر طبيعيّ، لأن الإسلام دِين 95٪ على الأقلّ من سكان ما بين المحيط والخليج. وتزداد النسبة مع النموّ الديموغرافيّ. وهو دِين يشكّل وحدة موحّدة متراصّة روحيًّا ودنيويًّا. وستحكم الشريعة الإسلاميّة هذه الدولة، سواء أأقامتها العروبة أم أقامها تيّار آخر.
​أمّا لفظة "عربيّ"، في معنى عامّ، فتبقى لأنّها اكتسبت موقعًا عالميًّا صلبًا في القاموس السياسيّ والعلاقات الدوَليّة. وصار من شبه المستحيل أن يتغيّر في المدى المنظور. وقد آلت إلى هذا الموقع لأنّها تسمية جغراسيّة. وسبق في التاريخ أن فَرضت تسمية "فينيقيّين" نفسها على سكّان شاطئ المتوسط الشرقيّ. فكانت، أيضًا، تسمية جغراسيّة أطلقها عليهم اليونانيّون من غير أن يتّصف بها المعنيّون أوّلًا. ومثال آخَر يكمن في تسمية سكّان القارّة التي اكتشفها كريستوف كولومبس بأنّهم "هنود" ولكنّهم "حمْرٌ". وذلك اقتناعًا منه أنّه وصل إلى "الهند" غربًا كما كان قد تصوّر. 
وأتساءل: أتحلّ في المستقبل تسمية "ميناM.E.N.A." محلّ التسمية القائمة، "الشرق الأوسط"، للدلالة على سكان تركية وسورية ولبنان والعراق والأردن وإسرائيل والجزيرة العربيّة وأفريقية الشماليّة من مصر إلى المغرب وموريتانية على الشاطئ الأطلسيّ؟ إنّها تسمية جغراسيّة تشمل هذه الرقعة المذكورة من العالَم ظهرت منذ عقود، وهي مرسّخة في الوقت الحاضر في القاموس السياسيّ والدبلوماسيّ المتداوَل. فمن يعرف كيف سيتلقّفها الإيديولوجيّون ويفلسفونها؟ وأيّ مداليل سيحمّلونها؟

​إنّ الدول الأجنبيّة تتعامل معنا على أساس أنّنا "عرب"، من غير أن ينطلق موقفها من اعتبار "قوميّ". موقفها جغراسيّ ينبع من نظرتها العامّة إلى المنطقة وإلى مصالحها، ومن أنّ الدولة اللبنانيّة عضو في جامعة الدول العربيّة. واللغة الرسميّة المعتمدة هي "العربيّة"، وتسمّي نفسها شعوبًّا عربيّة. فضلًا عن أنّ الدولة اللبنانيّة تقدِّم نفسها وتقدِّم شعبها إلى المنتديات الدوليّة على هذا الأساس.
​والموقف من تسمية عربيّ ليس بغريب كلّيًّا عن ماضي المسيحيّ اللبنانـيّ القريب. فقد قَبِل اللبنانـيّ المسيحيّ بتسمية "ابن عرب"، في المغتربات، تميّزًا له عن العثمانيّة-التركيّة. لكن الأمر تغيّر جذريًّا بعدما رحل العثمانيّون، وخصوصًا بعدما دخلت القوميّة العربيّة معمعة قولبة المسيحيّين بالعروبة. إن عبارة "ابن عرب" ما زالت رائجة في مناطق سكن الأرمن حيث يَعتبر اللبنانـيُّ الأرمنـيُّ اللبنانـيَّ الآخرَ المجاور له "ابن عرب". وهذا قابِل بالتسمية بخلفية تمايز لغويّ فقط. وإتقان المسيحيّين اللبنانيّين اللغة العربيّة الفصحى -بالإضافة إلى لغات أجنبيّة- ما كان يومًا إلًا عنصر فخر واعتزاز لهم، وهم ممن أجادوها وتفوّقوا بها وتأنّقوا وتألّقوا. وكان قد ابتدع اللغة العربيّة مسيحيّون أراميّون من البادية،-من" غربيّ الفرات"، وبالتحديد من منطقة الأنبار والحيرة- لغةً أصيلةً لهم، وتركوا لنا فيها آثارًا، منها الأدب الجاهليّ، قبل أن تصير لغة القرآن.
​وممّا يجدر ذكره أنّ غير المسلمين الناطقين بالضّاد في العالم الإسلاميّ العربيّ متمسّكون بالعربيّة كما هم معتصمون، بالقوّة نفسها، بهويّاتهم المجتمعيّة. وقد يكونون مدعوّين أن ينحتوا في "العربيّة" لفظة تماثل arabophoneالفرنسيّة وarabspoken الإنكليزيّة، إذا لم يتمّ تغيير معنى العروبة الرائج، أو لم تُنحت لفظة خاصّة أخرى أكثر ملاءمة تؤدي معنى الرابط اللغويّ والتضامنيّ، فيضعون حدًّا لبهلوانيّة التأويل والتفسير. غيرُ المسلمين، في هذه المنطقة من العالَم، المعتمِدين العربيّة الفصحى لغة تواصل، في حاجة إلى لفظة تدلّ على بقائهم أبناء خلّصًا للغة الضّاد، ومتجذّرين في عالمهم الخاصّ، ومحافظين على هويّاتهم المجتمعيّة، في آن معًا.

خلاصات ونتائج
​1 - اللبنانيّون مجموعتان: مجموعة مسيحيّة، هويّتها المجتمعيّة مسيحيّة لبنانيّة، ومجموعة مسلمة، هويّتها المجتمعيّة إسلاميّة عربيّة.
​2 - يخطئ المسيحيّون اللبنانيّون في رفض الصفة العربيّة في هويّة المسلمين اللبنانيّين. ويخطئ المسلمون اللبنانيّون في فرض الصفة العربيّة على هويّة المسيحيّين اللبنانيّين.
​3 - الشعب اللبنانـيّ هو مجموع الأفراد الحائزين على الجنسيّة اللبنانيّة.
​4 - الدولة اللبنانيّة عربيّة-مسيحيّة-إسلاميّة، مع كلّ ما يستوجبه هذا الطابَع من مسؤوليّات.
​5 - "اللبنانيّة"، في معناها الهُوَويّ، مرتبطة عضويًّا بهويّة المسيحيّين وبمعاناتهم. وتبقى هويّتهم المسيحيّة اللبنانيّة مسيحيّةً لبنانيّة حتى ولو تغيّر، في المستقبل، وضع الحدود لدول المشرق، ولم تبقَ الدولة التي يحيون فيها تسمّى دولة لبنان. 
​لا يشكّل اكتفاء المسيحيّين بالصفة اللبنانيّة في هويّتهم إلى عقدة نقص، أو استعلاء مريض تجاه الصفة العربيّة، أو أيّ صفة سواها، ولا إلى عدائيّة تجاه "العرب" كما يفتري عليهم به العروبيّون، ولا إلى تعبّد وثنيّ لصفة اللبنانيّة. إنّه يعود إلى أمرَين. 
الأوّل، غياب الشعور العروبيّ، بالمعنى الهُوويّ، عن إحساسهم. 
والثانـي، إسلاميّة العروبة شكلًا ومضمونًا وتطلّعًا. قال ميشيل عفلق: "وما دام الارتباط وثيقًا بين العروبة والإسلام وما دمنا نرى في العروبة جسمًا روحه الإسلام، فلا مجال إذن للخوف من أن يشتط العرب في قوميتهم"
وتبقى صفة "اللبنانيّة" إنسانيّةً ما دام المسيحيّون اللبنانيّون لم يقعوا في مطبّ القوميّة. فينبغي، إذًا، ألًا ينحرف مفهوم الهويّة المجتمعيّة عن صِراطه المستقيم، أيًّا يكن فعل الآخَرين وإغراءات المواجهة. 
​على كلٍّ، تبقى قضيّة المسيحيّين، أصلًا وأساسًا، هي الجوهر، وهي أن تصان حرّيّاتهم، في أعماقها وأبعادها، ويتأمّنَ أمنهم، وتقومَ مساواة سياسيّة وقانونيّة فعليّة حقيقيّة كاملة بينهم وبين مواطنيهم، أيًّا يكن عدد هؤلاء وأولئك، وأن يبقوا بعيدين كلّ البعد من أيّ لون تتوسّله "الذّمّيّة" مخرجًا احتياليًّا تنقضّ عليهم بواسطته. 
​6 - إنّ التوتّر الذي عاش فيه اللبنانيّون، حتى الآن، لا يعني أنّه باقٍ دائمًا وأبدًا بالضرورة، وإنْ كان هذا التوتّر حصيلةَ التعارض الموجود في ضمير الفريقَيْن اللبنانيَّين وثمرتَه التلقائيّة. 
ما يجب أن نهدف إليه هو إزالة التوتّر لا إزالة التعارض. وليس في الأفق ما يشير حتى الآن إلى إمكان إزالة التعارض، خصوصًا أنّ المسلمين لا يمكنهم -وليس مطلوبًا إليهم البتّة- تخطّي أوامر دينهم الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة ونواهيه، أو التخلّي عنها، على ما يعمل له إيديولوجيّون واهمون أو سيّئو النيّة.
​التعارض باقٍ. ولكنْ للحياة اليوميّة العمليّة منطقها التَسْوَوي، وإلّا بقيت الصراعات، حتى الدمويّة منها، سُنّة العلاقات بين المختلفِين. لذا، توصّل اللبنانيّون، بعد كلّ أزمة من أزماتهم، إلى توافق في قواسم مشتركة، بغية العيش بسلام واستقرار. ولكي تفعل هذه القواسم المشتركة فعلها الإيجابي الدائم، وتقوى بحيث تنقل اللبنانيّين إلى عيش مشترك تآلفي ثابت، ينبغي لها أن تقوم بعيدًا من كلّ إرادة هيمنة أو استيعاب، ومن كلّ شعور بالخوف أو بالغبن، وأن يترك اللبنانيّون ما هم مختلفون فيه راديكاليًّا إلى حلول خاصّة، وبموافقتهم جميعًا.
​وإذا فشل المنطق التَسْوَوي، لأيّ سبب، كانت نتيجته هيمنة فريق على فريق والافساح للنار، تحت الرماد، في البقاء حيّة.
​7 - لا تحُول تعدّديّة المجتمع اللبنانـيّ دون بقاء لبنان دولة واحدة، إذا قام توافق وجدانـيّ عميق ومُخلِص عليها وعلى أهداف وجودها، وعلى احترام القِيَم التي يتضمّنها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" وسائر الشّرعات المتمّمة له، وعلى القبول المتبادل بالاعتراف بالهويّتَين المجتمعيّتَين الموجودتَين بغية عيش مشترك تآلفيّ. ومثل هذا يسمّى "العيش معًا مختلفِين ومتساوِين"، أيْ مختلفون في الهويّة المجتمعيّة ومتساوون مساواة تامّة، لا لبس فيها، في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص.
​8 - إثنان، بنوع خاصّ، يصعب عليهما أن يقرّا بالثُنائيّة اللبنانيّة، على الرغم من سطوعها وانغراسها في حقيقتنا المجتمعيّة المعيوشة وسلوكنا اليومي، وفي وجدان أبناء المنطقة كافّة.

​الأوّل إيديولوجيّ الانصهار، يشدّه توق إلى مجتمع منصهر وهميّ، لا فروق فيه ولا تمايز هوَويًّا. فيقفز في الخلاء في تصوّرات لا يشكّ البتّة في إمكان تحقيقها، حتى في المدى المنظور. والثانـي مسيحيّ تقوقُعيُّ التوجّه.
​للأوّل أعيد ما أوردته في كتابي "لن نعيش ذمّيّين": "إن من الحكمة والواقعيّة السياسيّة والتاريخيّة أن نتعامل مع المعلوم لا مع المجهول. (…) مبدأنا أن نعالج، اليوم، قضايانا من المعطيات التي بين أيدينا، وأن نترك، للأجيال المقبلة، أن تعالج قضاياها انطلاقًا من معطياتها التي تكون بين أيديها. فلا تجميد للتاريخ ولا احتكار له".
​وللثانـي أقول: ما من تعارض، على الإطلاق، بين محبّته المسيحيّة الصافية التي ترتفع فوق الفروق بين البشر، أيًّا كانوا، وأينما كانوا، ومهما كانوا، والقبول بمفاهيم تفرض نفسها واقعًا مجتمعيًّا، وتنسجم والأخوّة الإنسانيّة والتلاقي الإنسانـيّ، وتتيح اعتماد شكل دستوريّ ونظام سياسيّ يزيلان فتيل التصادم بين الناس، ويسمحان بالارتقاء إلى المؤالَفَة (convivance). ولهذا المسيحيّ أعيد، أيضًا، ما أوردته في كتابي الآنف الذكر: "إن القضيّة كلّها تكمن في إيجاد الحلّ الذي يرتاح إليه ضمير المسلم وضمير المسيحيّ. (…) ولا يكون ذلك إلّا إذا قَبِلَ كلّ فريق بحقيقة الآخر، وفهم تطلّع الفريق الآخر، وتصرّف بوحي هذا الفهم".