أزمة لبنان: السياسة أولاً وأخيرًا
05 Sep 202209:29 AM
أزمة لبنان: السياسة أولاً وأخيرًا
كتب الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر في موقع mtv: 

على الرُّغم من أنَّ أزمة لبنان تبدو وكأنها اقتصاديَّة، فإنها في الحقيقة ومن دون أدنى شَكّ سياسيَّة بامتياز. في بُعدِها السياسي، ليست الأزمة إلا انعكاساً مباشراً لصراعات المحاور المتغيِّرةِ الأهواءِ والأسماءِ والأهداف. في بُعدها الزَّمَني، الأزمة نتيجةٌ مباشرة لانتقال أمراء الحرب من ساحات القتال الى قاعات السياسة ولاستقدامهم أدواتِهِم ومهاراتِهِم من طائفية وزبائنيَّة واستقواء ومحاصصة وفساد. اقتصاديًا، منذ انتهاء الحرب إلى اليوم، عاش لبنان غياباً كلياً للتخطيط واستشراءً للفساد والهَدر والمُحاصَصَة وتواطؤاً مُريباً بين المصارف والمَصرِف المركزي والدولة ومُروراً مُلتبساً عَبر ثَغَرات قانون النَّقد والتسليف. ساهَمَت هذه العوامل، بالإضافة إلى غيرها، بتكريس واقع العجز المتزايد للموازنات وبتثبيت مبدأ العبثيَّة في المعالجات مما أوجد فجوةً ماليةً تَوَسَّعت مع مُرور العقود ليصبح لبنان واقتصاده ومصارفه فجوةً كبرى. لم تتوانَ السلطات السياسيَّة والنقديَّة عن تسخير مقتدرات الدولة وقوانينها في سبيل شراء وقت لم يَلقَ إلا الهدر مَصيرا.

استُنفذت المراوغات والهندسات والمُماحكات ولم يَتعب الفاسدون. استَقطَبَت المصارف الودائع من الأربعة أقطار ومن جيوب فقراء الداخل وأغنيائِهِ وسلفتها للدولة ضاربةً العلم والمنطق وإدارة المخاطر والتحوُّط عُرض الحائط. استُنزفت الأموال لتثبيت سعر الصَّرف وتمويل المصاريف والديون لتأمين استقرارٌ هَشّ وسط تقلبات الداخل والخارج إلى أن حَلَّ تشرين. إنقطع دَفقُ الودائع وازدَهَرَ خروج الأموال. سادت الاستنسابيَّة والإذلال من قبل المصارف بحق أصحاب الأموال والحقوق. استمرَّ غياب الحلول ورُفِضَ الكابيتال كونترول ودخلت البلاد مرحلة ما قبل التفجير. فُجّرت بيروت وبات العيش وسط الدخان والغبار أسلوب حياة اللبنانيين. شَحَّت موجودات المركزي فانخفض الدعم وزاد الضغط المعيشي والاجتماعي. انطلقت المفاوضات مع صندوق النَّقد الدَولي وانتهت شفهية وبقي مفعولها كذلك. تحوَّلت المصارف من تمويل الاقتصاد إلى تنفيذ تعاميم المركزي تنفيساً للاحتقان تارةً وتذويباً للودائع طوراً. رُفِضت خطة الحكومة وتوزيعها للخسائر كونها تَهدُفُ إلى إعدام المصارف. إلا أنَّ المصارف نفسها بدأت بتنفيذ تدابير ظالمة بِحَقّ المودعين لاقت بها الحكومة في مقاربتها فأضحت كأنها تَعدُمُ نفسها. باتت التعاميم تصدر في كل مصرف على حدةً وأصبحت الاستنسابية هي القانون في غياب الأصيل.

ليس التدهور إلا نتيجةٌ طبيعية لغياب المعالجات. لا يُمكن "للترقيع" أن يشكل حلاً أمام فداحة الأزمة كما أن علاج النتائج دون الأسباب لن يُفضي إلى نتيجة. لم يشهد العام الحالي الذي شارف على نهايته أي تطورات إيجابية حقيقية. لم نلمس تقدما في أي من الملفات بل إن المعالجات أتت لتعاكس النظريات والمنطق. ليست زيادة الرواتب حلاً لمشكلة القطاع العام كما أن زيادة الدولار الجمركي لا يمكن أن يؤمن تمويلها. ليس "الإقصاء المالي" عبر إغلاق الحسابات واستمرار التضييق على المودعين ما يجب أن تقوم به المصارف وهذا ليس جزءاً من إعادة الهيكلة المنشودة في مُطلق الأحوال. ليست المُناكفات والمُماحكات ما نَتوقَّعُه ممن يُناط بهم مصير اللبنانيين. ليس الطحين والخبز والبنزين والدواء إلا عناوين الهائيَّة لِصَرف النَّظر عن المُشكلة الحقيقية وهي مشكلةٌ مرتبطة عضوياً بتعريف الدولة وبشكلها. الاقتصاد كما اللبنانيون يصارع للبقاء. كلُّ بيتٍ في لبنان يحاول أن يؤَمِّنَ البُنية التَّحتية اللازمة للعيش ولا يَخجل الحكام! بَل إنَّهم يصارعون هم أيضاً للبقاء على مقاعِدِهمِ وقد انتهت صلاحيتهُم قبل انتهائها.

إذا كانت الأزمة في توصيفها وفي مقاربتها سياسيَّة، فلا بدَّ للحلول أن تأتي من لَدُن السياسة فتكون هي نفسُها الداء والدواء. عملياً، يَجب أن تنطلق كل الحلول من "عقد وطني" يُرسي استقراراً سياسياً حقيقياً يجعل من النهوض الاقتصادي أحد نتائجه الطبيعيَّة. التفاوض مع صندوق النقد وتطبيق ما يطلبه من إصلاحات من وضع خطة النهوض قيد التنفيذ، الى توحيد سعر الصرف وتحسين الجباية ومكافحة التهرب عناوين لا يمكن أن تتحول واقعاً ما لم يتفق جميع الأطراف على شكل الدولة وهويَّتِها. المطلوب هو أن تتمكن هذه الدولة من بسط سلطة القانون على كامل أرضها وبَحرِها وجَوّها. عندها يكون الحلُّ شاملاً ورؤيوياً يرتكز إلى تحفيز الاقتصاد على النمو واستعادة الثقة.

يَومها لن نحتاج حتَّى إلى صندوق النَّقد الدَّولي.

يَومها لن تكون إدارة الفراغ هدفاً وسببًا للتناحر بل مدعاةً للخَجَل والخِزي!

يَومها سَيَلفُظُ الزمان ملوك الباطل كما لَفَظَهُم التاريخ الذي لَم ولَن يَدخلوه ...

الى ذلك اليوم، دُمتُم...