ما بعد الزيارة
06 Dec 202508:35 AM
ما بعد الزيارة
حمل الحبر الأعظم إلى لبنان شعلةً واحدة تُنير العتمات قبل أن تُضيء الساحات: السلام. فارتفعت الآية من متّى لا ككلمةٍ تُتلى، بل كنبضٍ يوقظ الضمائر:
«طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ.» (متى 5: 9).
فالسلام في المسيحية ليس ظرفًا خارجيًا، ولا حالةً يُنتظر أن تهبط من السماء كالمعجزات، بل هو حركة داخلية تتّسع فيها الروح بينما يضيق العالم. هو تطهيرٌ للداخل من شوائب الشهوة، وتحريرٌ للقلب من أثقال الطمع، وعبورٌ نحو جوهرٍ أعمق لا يعرف الاضطراب. هذا ما جاء البابا ليذكّر به بصوتٍ هادئ يحمل في عمقه نداءً صارخًا: أن الإصلاح يبدأ حيث يجرؤ الإنسان على مواجهة ظلاله، لا حيث يكتفي بترداد الشعارات.

ظهر البابا لاون الرابع عشر في لبنان متواضعًا كمن يحمل أثقال العالم على كتفيه من دون أن يبوح بها، وعالمًا ببواطن هذه البلاد كما لو قرأ في تربتها آلاف الصفحات. في كلماته لم يكن يصف لبنان فحسب، بل كان يقرأ روحه، ويشير إلى النقطة التي عندها يتوقّف الجرح عن النزيف ويبدأ المعنى بالانبثاق: السلام الذي يولد من الداخل قبل أن يُصنع في الخارج.
وإذ عاد بالذاكرة إلى المسيح، "رئيس السلام" (إشعياء 9: 6)، ذكّرنا بأنّ إنجيله هو إنجيل مصالحة، وأن ملكوته لا يقوم على صراع القوى بل على "برّ وسلام وفرح في الروح" (رومية 14: 17). وفي نظره، لبنان الذي أنهكته الأوجاع، وحمل صليبه حتى الانكسار، قادرٌ على القيامة إن هو أدرك أنّ الألم ليس نهاية، بل بابٌ يُفتح على تحوّلٍ أعمق.

في الشكل، بدا البابا كمن وجد في وجوه اللبنانيين المختلفين وحدةً لا يستطيع السياسيون صوغها. لحظة مهمّة جمع فيها الحضورُ والحشودَ رغم اختلاف الهويّات والمذاهب والاتجاهات، كأنّ هذا الرجل الآتي من بعيد استطاع أن يذكّر اللبنانيّ بما نسيه: أنَّ الاختلاف لا يلغي الوحدة، بل يكشف عن عمقها.
غير أنّ البابا، وسط الاحتفال، كان يرى ما وراء المشهد: يرى الجنوب المدمّى، والشمال الموجوع، والبقاع المتروك، وضواحي بيروت التي تشبه حطام ذاكرة. كان يسمع في هتاف الشباب صدى خوفهم من مستقبلٍ لا يجيء، ومن سلاح متفلّت وضرورة استعادة الدولة لشرعيتها، والنزيف الاقتصادي وغياب فرص العمل، ويرى في عيونهم تلك الهجرة الصامتة التي تبدأ من الداخل قبل أن تُترجم إلى تذكرة سفر.

ثم يجيء السؤال الذي لا يرحم:
أين لبنان بعد الزيارة؟
ما الذي يبقى بعد انطفاء الأضواء؟
هل تتحوّل الكلمات إلى مسار؟ والأمنيات إلى مشاريع؟ والرجاء إلى إرادة؟
من يحفظ نداء التعايش من الذبول؟ ومن يصنع السلام الذي رددّه البابا كصلاة لا تعرف الملل؟
وكيف نصوغ التغيير الذي دعا إليه، ما دمنا نعيش في بلد تتلاطم فيه الإرادات المتناقضة مثل أمواج بلا شاطئ؟ 

اللاهوت الذي ينبع من قلب البابا ليس لاهوتًا نظريًا؛ إنه لاهوت محبة تقاوم الخوف، وشجاعة تواجه تاريخًا مثقلاً بالإخفاقات. يرى البابا أنّ السلام لا يُمنح. فالسلام يُنتزع بالرجاء؛ ولا يُكتسب بالهيبة، بل بالتواضع؛ ولا يتحقق بالعنف، بل بشجاعة الحوار.
ولذلك لم يأتِ حاملًا عصًا يصنع بها المعجزات، بل أتى ليفتح الباب أمام المعجزة التي ينبغي أن نصنعها نحن:
معجزة أن نُعيد اكتشاف بعضنا البعض، وأن نُصغي قبل أن نحكم، وأن نُحبّ قبل أن نتّهم، وأن نترجم الأقوال بالأفعال ولا تبقى مجرد شعارات.
وفيما كان البابا يزور لبنان، كان المسيحيون فيه يواصلون النزوح بصمتٍ يشبه الانطفاء. شبّان يرفعون في بكركي شعارات التمسّك بالأرض، بينما يضغط الخوف على صدورهم من مستقبلٍ مسروق، ومن زعماءٍ يلهثون خلف مكاسب صغيرة في بلد ينهار. 
إنها المفارقة المؤلمة: أرضٌ وُلدت للرسالة، تُستنزف اليوم في سجالات عقيمة لا تولد سوى مزيدٍ من العتمة.
جاء البابا من تركيا إلى لبنان، حاملًا رسائل تتجاوز الحدود والجغرافيا. لكنّ رسالته الكبرى هنا لم تكن سياسية ولا لاهوتية بقدر ما كانت إنسانية:
أنّ السلام ليس صوت البابا، بل فعل الشعب.
وأن الرجاء ليس صلاة تُرفع وحدها إلى السماء، بل مسؤولية تُطرح على الأرض.
وعلى ضوء هذا الرجاء، نرفع الدعاء… لا هربًا من الواقع، إنّما توقًا إلى تحوّله: أن يمنحنا الله القدرة على أن نكون صانعي السلام لا طالبيه، بُناة الرجاء لا متفرّجين عليه.
فلبنان لا يُشفى بالخطب، بل بقرارٍ داخليّ شجاع عند كل الأطراف الذين صفّقوا للبابا والتقوا به…
ولعلَّ هذه الزيارة هي الشرارة التي تذكّرنا من جديد بأن القيامة ممكنة، وأن الوطن، مهما انكسر، لا يزال ينتظر أبناءه ليدحرجوا الحجر.