رياض طوق
هل ما شهده القضاء في اليومين الأخيرين يدخل في باب المسرح الهزلي أو الارتجالي، حيث يبقى اللاعبون هم أنفسهم وتتبدّل أدوارهم. فيضيع المتفرّجون وينسون البدايات ليقعوا أسرى اللحظة الراهنة؟ ففي هذا النوع من المسرح لا ضوابط ولا قواعد ولا التزاماً بالنصوص.
في جلسة الخميس في المحكمة العسكرية لم يلتزم أحد بدوره المفترض. من النيابة العامة العسكرية الى المحامي وكيل المقرصن ايلي غبش وصولاً الى صدور الحكم النهائي.
الفصل الاول من تغيير الدور كان مرافعة النيابة العامة العسكرية بشخص مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس حيث طلب البراءة للمقدم سوزان الحاج، في حين كان هو نفسه من ادّعى عليها في وقتٍ سابق بالافتراء الجنائي. وهو نفسه من رفض طلبات اخلاء السبيل الذي كان تقدّم من قبل وكلائها المحامين.
الفصل الثاني هو دور محامي المقرصن ايلي غبش، الذي تميّز بأداء رائع من بعد أن قام بتغيير كامل استراتيجية الدفاع التي اعتمدها غبش منذ سنة ولغاية الجلسة ما قبل الأخيرة. فهو الذي كرّر في كل التحقيقات أن الحاج هي المحرّض وهو منفّذ فقط في ملف تلفيق تهمة للمثل المسرحي زياد عيتاني، وها هو اليوم عبر محاميه ينسف هذه النظرية التي لطالما تمسّك بها وليظهر في الجلسة الاخيرة بأن الحاج ليست من حرّضه.
أما الفصل الأخير من المسرحية فهو كان غير المتوقّع، فأتت الخاتمة على قاعدة Tout le monde a gagné.
فالمحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد حسين عبدالله أصدرت حكمها وبرّأت الجميع. فعيتاني بريء من التعامل مع العدوّ، والحاج بريئة من تلفيق التهمة اليه. أما الغبش فسيسدل الستارة خلفه بعد خروجه من السجن خلال الاسبوع المقبل. هذا المقرصن، الذي لطالما لفّق تهماً، كان اعترف بأنه لفّق تهمة لأحد جيرانه المدعو ايزاك دغيم بسبب خلاف على خزّانات المياه على سطح البناية. وكانت الفبركة يومها أيضاً العمالة لصالح الاستخبارات الاسرائيلية. وبعد أن كان دغيم على وشك قضاء خمسة عشر عاماً في السجن لادانته بالعمالة أعترف غبش امام قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا بتلفيقه الملف الأمر الذي دفع أبو غيدا الى كتابة هذه المقدمة للقرار الاتهامي الذي أدان به غبش:
"في المنجد، كلمة الجار تعني: أولاً المجاورة في السكن، ثانياً الظلم، والمعنى الثاني تجسّد بالمعنى الشعبي القائل الجار ولو جار.
وبالتالي فانه من المشاهد حصول خلافات بين الجيران يظلم فيها جاراً جاره، موجهاً اليه الشتائم وينعته بأوصاف غير لائقة، وقد يلفّق له تهمة يعرف أنه لم يرتكبها.
لكن، أن يصل الأمر الى تلفيق تهمة من عيار العمالة لاسرائيل فهذا أظلم الظلم وهو ما حصل فعلاً مع المدعى عليه ايزاك دغيم".
ما حصل في المحكمة العسكرية يوم الخميس لم يكن الهدف منه تبرئة المقدم سوزان الحاج، بل ادانة شعبة المعلومات. هذا الجهاز الأمني الفتيّ الذي لم يؤخذ عليه أي خطأ في التحقيقات التي أجراها منذ أن بدأ بتفكيك شبكات التجسس التابعة للاستخبارات الاسرائيلية في لبنان، وصولاً الى مكافحة الارهاب الذي أفضى الى تفكيك والقاء القبض على عشرات الخلايا الارهابية.
ما أراده البعض في محكمة الخميس كان في خلفيّته ضرب الأسس التي قامت عليها الشعبة. هذه الشعبة التي حذّرت بلجيكا من الاعتداءات الارهابية التي نفّذها تنظيم "داعش" في أنفاق المطارات في بروكسيل قبل وقوعها، والتي زوّدت الفرنسيين بهوية مشغّل الشبكة الارهابية التي ضربت في عمق باريس في مسرح "باتاكلان" و"ستاد دو باري"، والتي ألقت القبض على خاطفي الاستونيين السبعة في لبنان والتي تمكّنت من انقاذ الصحافيين الفرنسيين من حصار بابا عمرو في حمص سنة 2012 وسلّمتهم الى فرنسا في عملية اعتبرتها الدولة الفرنسية ديناً للبنان عليها.
القصد ليس الاستفاضة في شرح انجازات الشعبة الامنية، بل لتبيان حقيقة المقصود من جلسة الخميس، ألا وهو محاولة لضرب مصداقية "المعلومات". فكثيرون من الذين كانوا يهاجمون الشعبة لأسباب سياسية أو طائفية أو مذهبية، كانوا هم أنفسهم يعودون ليشكروها وليثنوا على مناقبيتها في مكافحة الجريمة وفي حرفيتها في العمل الأمني.
أراد البعض، أول من أمس، اظهار الشعبة على أنها ظالمة وتلفّق تهماً، أو انها غير جديرة بالتحقيق. فبمجرّد تبرئة المقدم الحاج أصبحت الشعبة في دائرة الاتهام. وبالحدّ الأدنى قد يكون المطلوب وضع شعبة المعلومات في كفة الميزان مع جهاز أمن الدولة للايحاء بأنه كما سبق لأمن الدولة أن أوقف الممثل زياد عيتاني من دون ذنب، ها هي المعلومات سجنت الحاج وهي بريئة. كل هذا قد يدخل في اطار المواجهة بين من نصّب نفسه زعيم الموارنة الأول في لبنان الوزير جبران باسيل الذي تمكّن في أقل من ثلاث سنوات من أن يطيح بمعظم أخصامه وان يقصيهم عن الإدارة ومواقع الدولة ومن ان يصبح الديبلوماسي الاول في لبنان من خلال نسج علاقات مع معظم عواصم القرار شرقاً وغرباً من جهة، وبين مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان من جهة أخرى. المواجهة بدأت على خلفية تشكيلات أمنية لضباط مسيحيين في قوى الأمن الداخلي وبدأت تتطور الى حين تدخّل باسيل لدعم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس في السجال القائم بينه وبين قوى الامن التي بدأت خلال التحقيقات مع السماسرة، والتي لم تنتهِ بادّعاء جرمانوس على مدير عام قوى الامن بتهمة السماح بمخالفات بناء وحفر آبار ارتوازية.
وقف الحظّ يومها الى جانب جرمانوس الذي استفاد من الغطاء الكامل لرئيس التيار البرتقالي وفريق رئيس الجمهورية الذي كان يفتقده تماماً قبل احتدام معركة باسيل - عثمان.
واضطرّ جرمانوس، الذي لا يحسد على موقفه، أن ان يكون نجم جلسة الخميس. لا أحد يدري اذا كان هو من سعى خلف هذه النجومية أم أن الظروف فرضت نفسها، فطيف باسيل - الياس بو صعب كان يخيّم على مجريات الأحداث التي سبقت صدور الحكم، وهو ما يحتاجه مفوض الحكومة للاستظلال به بعد أن كثرت الإشاعات في الأشهر الثلاثة الأخيرة عن اقالته أو استبداله أو تشكيله أو تعيينه سفيراً في دولة أجنبية.
في قاعة المحكمة يوم الخميس سجّل جرمانوس سابقة وحضر الجلسة شخصياً وهذا ما أثار موجة انتقادات ضدّه. في السياسة دخل باسيل الى القبيات من الباب العريض، الى معقل النائب هادي حبيش الذي كان سبق له أن هزم التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية مجتمعين في الانتخابات البلدية الأخيرة. أما أورثوذكسياً، فإنّ دعم بو صعب لسوزان الحاج الأورثوذكسية، ابنة بلدة فيع في قضاء الكورة، سيعطيه بريقاً داخل الطائفة التي فقدت وجوهاً زعماتيّة بعد خروج عصام فارس وميشال المرّ من السلطة.