جورج ساسين
الجمهورية
تداخل عناصر التفجير الخارجية والداخلية على خلفية الأزمة السورية، يشل قدرة "الترويكا" الحاكمة في تركيا، ويطرح تساؤلات جدية حول قدرة انقرة على توسيع هامش حركتها الديبلوماسية والعسكرية.إذ يعزو العديد من خبراء الشؤون التركية التخبط في مراكز القرار في أنقرة إلى توقعات سياسية خاطئة بنيت على تصورات ديبلوماسية غلب عليها "الطابع الإيديولوجي" على غرار العديد من العواصم الغربية والإقليمية التي ناصبت العداء لدمشق. ففي نيسان 2011 تبنت مراكز القرار هذه نظرية "تغيير النظام" في وقت مبكر بعد تردد دام اسابيع قليلة وذلك على خلفية الحرب الأطلسية ضد نظام العقيد الليبي معمر القذافي. وراهن "المطبخ" التركي المؤلف من "الترويكا" الحاكمة الذي يضم رئيس الجمهورية عبدالله غول ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، على سقوط سريع جداً للنظام السوري، من دون الالتفات إلى تقديرات أجهزة المخابرات التركية التي كانت أكثر إلماماً بطبيعة دعائم هذا النظام على الأرض، وذلك نظراً لعملية "الكباش" الجارية بين حزب العدالة والتنمية وقيادات الجيش على خلفية قضية محكمة بوليوز التي كانت تنظر في تهم الانقلاب الموجهة إلى 330 ضابطاً رفيعاً في حينها.واستناداً إلى المعلومات الخاطئة التي تسرب هنا وهناك وللنظريات المتناقضة حول عدد من الوقائع، تصف دوروتي شميد، الباحثة المتخصصة في الشؤون التركية في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، بأن الوضع أشبه "بعلبة سوداء" تلجأ إليها حكومة حزب العدالة والتنمية كلما وقعت أزمة، الأمر الذي يكشف حجم الفروقات بين الأقوال والأفعال. ولعل السبب هو أن ما يجري في سوريا هو بمثابة أزمة داخلية تهدد الكيان التركي ذاته. وعليه فان الحكومة تحاول ضبط وقوننة المعلومات.وبدل أن تقوم "الترويكا" التركية بمبادرة ديبلوماسية محكمة وواقعية، تسرعت في "نقل البارودة من كتف إلى آخر"، وكرر الثلاثة تصريحاتهم النارية ضد الرئيس السوري بشار الأسد وحكومته، وفوجئ المراقبون بسرعة القطيعة وكأنهم أرادوا استلهام تجربة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ضد نظام معمر القذافي في ليبيا، والتعويض عن ترددهم في بداية الأحداث هناك. ولهذا انتقلوا فوراً إلى تطبيق "نظرية تغيير النظام" وتشكيل "المجلس الوطني السوري" واستضافة قيادات "الجيش السوري الحر".لكن سرعان ما بدا أن "الترويكا" التركية لا تمتلك حلاً للأزمة السورية، وليس من الواضح بالضبط ما هي الرافعات التي تستند إليها أنقرة، ففقدت دور الوسيط. وثمة تساؤلات حتى حول قدرة تركيا على شن حرب ضد سوريا، لاسيما أن العسكر لا يرغبون ركوب المغامرة في الوقت الذي يجري فيه صراع قوى مفتوح بينهم وبين حكومة العدالة والتنمية، مما يشل قدرة أنقرة على وضع استراتيجية تدخل في سوريا.ولمعرفة اسباب هذا الشلل يتعين العودة إلى التحديات الثلاثة التالية:أولاً، كانت الديبلوماسية التركية في الشرق الأدنى،حتى بداية "الربيع العربي"، نقطة جذب شعبية تسجل لصالح حكومة أردوغان وحملته الانتخابية فيما تكاد السياسة الخارجية تغيب كلياً في البلدان الأوروبية، والآن بسبب العجز التركي في الأزمة السورية تعرض مهندس السياسة الخارجية داوود اوغلو لحملات انتقاد عنيفة، ذلك انه لا يعرف كيف يبرر هذا العجز. ذلك ان نظريته في "العمق الاستراتيجي" التي تعتبر مجالها العثماني الحيوي السابق "حوضا حضاريا" قد تحافظ على استقراره من خلال قوة تركيا الحالية واعتمادها على ديبلوماسية "تصفير المشاكل مع الجيران" ولعب "دور الوسيط والحكم" قد تلقت ضربات قاتلة لاسيما بسبب القطيعة مع دمشق وتدهور العلاقة مع طهران وبغداد ونيقوسيا وأرمينيا. في المقابل، كسبت أنقرة دوراً مميزاً لدى الأنظمة التي يتولاها "الاسلام السياسي" بدليل مشاركة الرئيس المصري محمد مرسي وراشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة التونسية ورئيس المكتب السياسي في حركة "حماس" خالد مشعل وغيرهم في مؤتمر حزب العدالة والتنمية قبل أيام..ولقد كانت العلاقة مع سوريا نقطة قوة لا يستهان بها في السياسة الخارجية الجديدة لتركيا في الشرق الاوسط لاسيما انهما ارسيا علاقة تعاون امني حول القضية الكردية بعد غزو العراق في 2003 خوفا من استقلال كردستان العراق، ومعارضة انقرة لمرور الجيش الاميركي من اراضيها الى شمالي العراق. وكانت العلاقات التركية مع سوريا مثابة "حفاز" للنفوذ التركي في المنطقة العربية، ودفعها لكي تكون وسيطا ومحاورا لا يمكن الاستغناء عنه بين الشرق والغرب وبين دمشق وتل ابيب وبين طهران وبقية العواصم في ما يتعلق بالملف النووي.ثانياً، انقلاب على سياسة الانفتاح على إيران وموافقتها في ايلول 2011 على نصب صواريخ أميركية مضادة للصواريخ على أراضيها، واحتضان نائب رئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي والانفتاح على أكراد العراق ودعمها للمعارضة السورية، هذه كلها عناصر رابطها الأساسي الاصطفاف المذهبي السني ومعاداة الشيعة في المنطقة من دون ان يعني ذلك بالضرورة انفتاحا على اكراد تركيا او سوريا.ثالثاً ، عودة الملف الكردي في تركيا وسوريا إلى الواجهة مع تزايد عمليات حزب العمال الكردستاني واشتباكاته المستمرة مع الجيش التركي، حيث لم تشهد مناطق الاشتباكات "هدنة رمضان" كما كان الأمر في السابق. وأصبح هذا الملف غير محصور بالداخل التركي، وثمة قلق من احتمال انتفاضة الأكراد في مناطق اخرى ودعم عناصر حزب العمال الكردستاني في تركيا وشمال شرقي سوريا.وتقول دوروتي شميد التي أشرفت على كتاب حول "تركيا والشرق الاوسط :عودة قوة إقليمية؟" صدر مؤخراً عن المركز الوطني للأبحاث العلمية ، بأن أنقرة كانت تشرح دوماً بأنها على خط المواجهة مع سوريا وكان الجميع ينتظر منها إيجاد حل، لكنها تمارس غموضاً كبيراً حول قدرتها الفعلية على إقتراح أفكار خلاقة. وبالعكس إنها لا تقترح شيئاً في الواقع وتعمل على تدويل الأزمة، إذ اهتمت منذ البداية بما تقوم به الجامعة العربية وأنشأت مجموعة "أصدقاء الشعب السوري" بغية جمع أكبر عدد ممكن من الدول، ولو كانت صغيرة، في الأمم المتحدة للتدليل على أن النظام السوري معزول. ولم يكن هدف أنقرة الفاعلية بل الدعاية. ولئن كانت تلح على الولايات المتحدة لتشكيل قوة تحت مظلة حلف شمال الأطلسي للتدخل العسكري في سوريا إلا أنها لم توضح إذا كانت الحكومة التركية ستقرر خوض المعركة مع هذه القوة. وثمة إلتباس آخر يتجسد بدعوتها لإنشاء "مناطق محمية" من دون أن تفسر إذا كانت تطالب صراحة بإقامة منطقة عازلة أو منطقة حظر جوي. أما تطرقها إلى موضوع اللاجئين فهو يتم من زاوية الدعاية الإنسانية.وتحاول أنقرة اللعب بمفردها في الملف السوري لكي تزيد من تلميع صورتها في أعين الأميركيين في شكل خاص. إذ نجحت الحكومة التركية في شد اواصرها مع واشنطن منذ "الربيع العربي" لأنها أوحت بأنها سوف تكون لاعباً فاعلاً في المستقبل. وترى شميد في كتابها المشار اليه بان "الترويكا" تحتل المنابر والشاشات لكن الرسائل التي تبعث بها هي غالبا متناقضة، باعتبار ان التوازنات في بينها غير مستقرة، ما يعكس تخبطا في المواقف لديها، واختلافاً بالتالي في طموحات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير خارجيتهما وليس بالأسلوب فحسب.وفي المحصلة، فان هذه العناصر والمعطيات مجتمعة تفسر ورطتها الراهنة التي هي بمثابة كعب أخيل "الترويكا" التركية الحاكمة. ففي الوقت الذي يعمل أردوغان على خوض الانتخابات الرئاسية في 2014، وتحويل النظام إلى رئاسي مفصل على قياسه، والبقاء في الحكم حتى 2023، ترتفع أسهم عبد الله غول الذي يحظى بتأييد الرأي العام حيث نال 51 في المئة في استطلاع للرأي مقابل 22 في المئة فقط لصالح أردوغان. وبغض النظر عن كل ذلك، جاءت هذه "المبارزة" اليوم على خلفية قرع طبول الحرب مع سوريا التي تشكل "بؤرة زلزال" لما ستكون عليه توازنات القوى الإقليمية والدولية في السنوات المقبلة.