ويحدّثونك عن الاستعمار
07 Oct 201315:42 PM
ويحدّثونك عن الاستعمار
ما كاد ينتشر خبر "العبّارة الإندونيسيّة" التي كانت تُقلّ عشرات الطرابلسيّين والعكاريّين إلى أستراليا، حتّى غرقت عبّارة أخرى تنقل أعداداً أكبر من أبناء القرن الأفريقيّ (صوماليّين وأريتريّين) إلى إيطاليا.

 

مأساتان إنسانيّتان تلاحقتا من دون قدرة على التدخّل، تدخّلنا نحن البشر المتعاطفين مع الضحايا، تتعدّى مشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف.

 

هذا النمط من المآسي التي تحصل في البحر ليس جديداً بطبيعة الحال: دائماً هناك أفراد بائسون من بلدان "العالم الثالث" يفرّون من الفقر والبؤس والاستبداد والحروب الأهليّة ومفاعيلها، قاصدين البلدان التي تتوفّر فيها، أو هكذا يتراءى، فرص العمل ومعها الحرّيّة وشيء من الكرامة الإنسانيّة. وبعد أن يقعوا على تجّار ووسطاء عديمي الأخلاق، يسهّلون لهم شروط غرقهم وموتهم، يغرقون ويموتون.

 

الجديد نسبيّاً في مأساتَي العبّارتين الأخيرتين أنّ البلدان التي يقصدها الضحايا تعيش، هي الأخرى، أوضاعاً سيّئة اليوم. فهي، بسبب الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي لم توفّر بلداً أو مكاناً، ضعيفة القدرة على تأمين فرص العمل التي يسعى وراءها المهاجرون - الضحايا. كذلك فبسبب تلك الأزمة نفسها، تعاظم عدد العنصريّين في البلدان المقصودة ممّن يميلون إلى "تفسير" أزمتهم بهجرة الأجانب. وهذا، بدوره، يزيد في مصاعب العيش والاستقرار، فضلاً عن الحصول على عمل، لدى الكتل المهاجرة.

 

مع ذلك كلّه، تتوالى قوافل الباحثين عن حلم يتراءى لأصحابه أنّه لا يتحقّق إلاّ في أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة وأستراليا. وهذا بذاته تصويت بالأقدام، بل بالأرواح، لمصلحة نموذج على نموذج: ففي مقابل الفقر والبؤس والاستبداد والحروب الأهليّة ممّا يستوطن "هنا"، يبقى "هناك" المكان الذي يُقصد للعمل والحرّيّة والكرامة، فضلاً عن الدراسة والاستشفاء.

 

وربّما جاز القول إنّ وعود ثورات "الربيع العربيّ" كانت كفيلة، من حيث المبدأ، بوقف هذه الوجهة أو، أقلّه، الحدّ منها. بيد أنّ تعقيد المراحل الانتقاليّة ورعونتها في بعض البلدان، وقسوتها الاستثنائيّة في بلدان أخرى كسوريّا، ستعمل حتّى إشعار آخر على تكريسها ومضاعفتها.

 

لكنّ ما يزيد البؤس بؤساً أنّ قطاعات عريضة من "نُخب" البلدان التي تعيش هذه المآسي تؤثر التمسّك بنموذجها في الحياة، أي بدولها الفاشلة ومجتمعاتها المتصدّعة التي تنزف بشراً، مثلما تؤثر المضيّ في هجاء... الاستعمار! وغنيّ عن القول إنّ تلك البلدان التي تستفرغ بشرها إنّما غادرها الاستعمار قبل عشرات السنين، فيما بعضها، كأثيوبيا، لم يطأ الاستعمار أرضه أصلاً.

 

وهذا ما يضعنا، مرّة اخرى، أمام مشكلة "النُخب" غير المعنيّة بأيّة مسؤوليّة عن أحوال مجتمعاتها، بل التي ينفصل تفكيرها انفصالاً تامّاً عمّا هو راهن في المجتمعات تلك. وفي هذه الغضون يتزايد الفارّون من بلدان صامدة على تحجّر أفكارها، وعلى حروبها الأهليّة، فيما يتعاظم الموت الذي لا يسبّبه، بالطبع، إلاّ الاستعمار.