الفدراليّة التي تناسب الجمهوريّة اللبنانيّة الثالثة
25 Jun 202113:15 PM
الفدراليّة التي تناسب الجمهوريّة اللبنانيّة الثالثة
إدغار قبوات

إدغار قبوات

كتب المحامي والأستاذ الجامعي إدغار قبوات:


التعددية اللبنانية متجذّرة تاريخيا في لبنان، هذا امر محسوم، ولكنها متجذّرة ايضا ثقافيا وسياسيا، ويمكن إستنتاج هذا الأمر من عدة حقبات تاريخية، واحداث سياسية محوريّة، عبّر فيها كل مكوّن عن نظرة مختلفة حيال القضية الواحدة، ليصار بعد ذلك إلى إستنتاج بأن الهوية اللبنانية ليست واحدة.


بالفعل، عند سقوط السلطنة العثمانية عام 1918، إقترن هذا الحدث بإحباط إسلامي وبإرتياح مسيحي، و كذلك الأمر، مع تجربة الحكم الفيصلي في سوريا بين 1918 و1922، التي إقترنت بترحيب إسلامي ورفض مسيحي. اما قدوم الفرنسيين وبسط إنتدابهم على لبنان عام 1920 ، فإقترن بترحيب مسيحي ورفض مسلم، وعند إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، إقترن هذا الحدث بترحيب مسيحي ورفض إسلامي. كذلك الأمر عند إقرار الدستور اللبناني عام 1926، رحّب المسيحيون بذلك، وقاطع المسلمون الدستور، وعند إعلان إستقلال لبنان من السلطة المنتدبة الفرنسية، رحب المسلمون بذلك، ورفضه المسيحيون.

 

إقترنت بعد ذلك الموجة الناصرية عام 1958 بترحيب إسلامي وبرفض مسيحي، كما إقترنت حادثة إنفلاش السلاح الفلسطيني في الستّينات بترحيب إسلامي وبرفض مسيحي عارم، وصولا إلى دخول الجيش السوري الأراضي اللبنانية عام 1976 والذي إقترن بترحيب مسيحي ورفض إسلامي. إقترنت بعد ذلك عام 1979 الثورة الإسلامية الإيرانية بترحيب إسلامي وبرفض مسيحي، اما الإجتياح الإسرائيلس فرحب به المسيحيون ورفضه المسلمون. اكثر من ذلك، إن إنتخاب الرئيس بشير الجميل عام 1982 إقترن بترحيب مسيحي ورفص إسلامي. اما إتفاق الطائف فإقترن برفض مسيحي وقبول إسلامي. إن ثورة الأرز شارك فيها المسيحيون والمسلمون السنة والدروز، اما الحضور الشيعي فكان خجولا جدّا، وصولا إلى ثورة 17 تشرين 2019 حيث الحضور الشيعي تراجع كثيرا.

 

يتبين إذا من خلال مراجعة نقدية وتاريخية للمسار السياسي للطوائف اللبنانية، لا سيما من خلال التجربة السياسية الممتدّة سحابة مئة سنة حتى تاريخه، بأن الهوية اللبنانية الواحدة الموحّدة هو مجرّد وهم لا اساس له، وبأن نظرية الوطن- الأمّة مجرّد مصطلح شعبوي، الأمر الذي يستفاد منه ان التعددية اللبنانية راسخة، وناثرة لشباكها على متخلف الميادين الثقافية والسياسية للمكوّنات اللبنانية، لترتقي إلى مرتبة الخلاف والتصادم في ظل النظام المركزي الراهن، وليس الإختلاف كما يحلو للبعض توصيفها. فلا يمكن لمجتمع يتحلّى بهويّة مركّبة ان ينعم بالإسقرار، دون ان يتبنّى نظاما سياسيا يعكس هويّته المركّبة هذه.

 

مداميك المشروع السياسي والأسباب الموجبة لإعتماده


إن الفدرالية ووحدة لبنان لا يتعارضان. المعادلة التالية صحيحة في كلّ مكان من العالم : الفدراليّة تفيد الجماعات كلّها في المجتمعات التعدديّة، بغضّ النظر عن لعبة الاعداد والاحجام الديموغرافيّة. مثلا، صحيح أنّ الفدراليّة بكندا تعطي ضمانات للاقليّة الفرنكفوفونيّة، ولكنّها لا تسيء بالضرورة الى الغالبيّة الانغلوفون. الفدراليّة ببلجيكا تضمن حقوق الوالون، ولكنّها لا تضطهد بالضرورة الفلامند، والحال أنّ رفض الفدراليّة عامّة يستبطن وعي أكثري يحتقر الاقليّات. مثلا، في العراق، النخب الكرديّة كانت تطالب بالفدراليّة، والنخب الحاكمة العربيّة ظلّت تصرّ على أكثر درجة ممكنة من الحكم المركزي، الى أن بدأ الاكراد يطالبون بالتقسيم. المتطرّف الحقيقي، والتقسيمي الحقيقي، هو من لا يبالي بقضايا الاقليّات لأنّه يحتقرها. كما لا تعارض ايضا بين الفدراليّة والعلمنة، ونحن مع الطرحين. كندا، وبلجيكا، وسويسرا دول فدراليّة وعلمانيّة في آن. مؤسف أن ينقسم لبنان بين مدافع عن الفدراليّة، ومدافع عن العلمنة، كأنّ الاولى تنفي الثانية، أو العكس. العلمنة هي حلّ لمشكلة نزعة الاديان للسيطرة على الفضاء العام، والقوانين الناظمة للحياة العامّة. الفدراليّة حلّ للتحدّيات التي تطرحها التعدّديّة المجتمعيّة. يمكن للطرحين أن يتكاملا، كما هو الحال في كندا، أو بلجيكا، أو سويسرا، وكلّها دول فدراليّة وعلمانيّة في آن. نحن لا نستسيغ تدخّل الدين ورجاله في الفضاء العام، أيّ أن مقاربتنا لعلاقة المقدّس بالدنيوي علمانيّة؛ كما نحن مقتنعون بالوقت عينه أنّ المجتمعات التعدّدية تحتاج لنوع من أنواع اللامركزيّة السياسيّة أو الفدراليّة، لتستقرّ أمورها.

 

نحن مع الحياد بقدر ما نحن مع الفدراليّة، ونكاد نقول، أكثر. بمعنى آخر، نحن مع معادلة : فدراليّة + حياد. الفدراليّة طريقة من طرق ادارة التعدّديّة المجتمعيّة. الحياد ضروري لكفّ شرّ المحيط عنّا، ولكي لا نستخدم مجدّدا، كما استخدمنا دوما، ونستخدم اليوم، كساحة لتصفية الحسابات الاقليميّة. الحياد ضروري، كما الفدراليّة ضروريّة، ولا تعارض طبعا بين الاثنين. الدولة المحايدة كيان يمتنع عن المشاركة بالحروب الدوليّة، والتحالفات العسكريّة؛ ودول مثل سويسرا، النمسا، ايرلندا، السويد، مالطا، تركمانستان، الفاتيكان، محايدة. عند وقوع نزاعات مسلّحة، تمنع الدولة المحايدة المتصارعين من استعمال أراضيها عسكريّا. كما تعامل الدولة المحايدة هذه الاطراف على قدم المساواة، أي، تتجنّب ما يغيّر موازين القوى بينها.  بالمقابل، يفترض بالاطراف المتصارعة الامتناع عن دخول أراضي الدولة المحايدة، أو السعي للهيمنة عليها. كما يفترض فيها الامتناع عن تجنيد، أو تمويل، جماعات داخلها، لغايات سياسيّة، وهذا بالظبط  ما نريده للبنان.

 

بالخلاصة، لم يجر التعدي على العيش المشترك كما جرى في المرحلة السابقة. ولم يسبب نظام حكم من مساوئ أكثر مما سببه النظام المركزي. فهل ما جرى في 1958 و1967 و1969 و1975 و1989 و2005 و2008 و2019 كان ضمن سياسة الحفاظ على العيش المشترك أم كانت نتائجه مدمرة على الجميع ولو إختلفت المراحل؟ من هنا نجد أن الخنق الذي مارسته صيغة الحكم السابقة على اللبنانيين، لا يمكن أن يستمر كونه قضى، تحت شعار الحفاظ على العيش المشترك، على الشعب اللبناني وأدى الى تهجير مشترك وجماعي لنسبة مهولة منه. إن النظام الفدرالي يوائم بين الوحدة من جهة، والإعتراف الفعلي بالتعددية من جهة اخرى، وهذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي تحقيقه في لبنان.

 

إننا نرى ان الفدرالية المقترنة بالحياد هي المعادلة التي تليق بجمهورية لبنان الثالثة، والتي من شأنها ان تؤمن مخرجا لائقا من الجمهورية المتسكّعة الكسيحة الحالية التي اثبتت فشلها على المستويات كافة. هذه المعادلة هي التي تحفظ وحدة الدولة، ايا كانت نوعية تعددية شعبها، كما تقيم وفاقا وطنيا حرّا وصلبا وثابتا. فهي تكوكب ايضا شعبا تعدديا، بقضّه وقضيضه، من اجل الدفاع عن كيان وطنه إذا ما تهدد، كما تجعل الوطن يساهم، اخذا وعطاء، في عولمة متماسكة ومتكافئة ، وتقف في وجه اي طامع خارجي. إلا ان هذه الفدرالية بحاجة إلى إجماع وطني، لكي لا تنفجر على غرار النموذجين السوفياتي واليوغسلافي. بعبارة اخرى، وكما خلص انطوان نجم، "الفدرالية مدخل، وعتبة وإمكان". بالمقابل، وتأكيدا على المسلّمة التي تقول بأن الفدرالية ليست الحل لسلاح حزب الله او غيره، إنما تحقق الحل الدستوري والسياسي المستدام للمكونات المجتمعية اللبنانية على المدى الطويل. فنقول على الملأ بأنه لا مؤتمر تأسيسي في لبنان قبل إستعادة السيادة الوطنية بالكامل. فهذه المسألة لا مساومة عليها، ناهيك إلى انها تتولى المرتبة الأولى في سلّم اولويّاتنا. وإستطرادا، لا حوار حول مستقبل لبنان وشعبه قبل تسليم السلاح للشرعية اللبنانية. فهذا التسليم هو المدخل الوحيد لفتح النقاش المذكور على مصراعيه.