ما كاد نور الشمس يخترق الضباب والأمطار في لاهاي، حتّى أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بدء جلسات المحاكمة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. الليل الطويل في لاهاي انبلج فجره، وصباح العدالة أشرق على أهل الشهداء والضحايا بانطلاق المحاكمة، وبدء الإدّعاء العام بسرد الوقائع التفصيلية لحصيلة ثماني سنوات من التحقيق. لكنّ هذا الفجر استعاد لحظة التفجير الرهيبة وما خلَّفته من ألم وموت ونار ودخان، فاستعاد أهالي الشهداء لحظة الرعب والفراق، وعمّ جوّ من الحزن في القاعة المهيبة، وأمسكوا أيدي بعضهم البعض، في مشهد يختصر مسيرة المحاكمة ومغزاها العميق، الذي سيصل حكماً إلى تكريس منطق عدم الإفلات من العقاب.
منذ الصباح كان الجميع على استعداد للحظة البداية. الدخول الى مبنى المحكمة تحت الامطار وسط إجراءات أمنية مشدّدة وتفتيش دقيق، والتزام حرفيّ بالجداول الموضوعة للأسماء، واستعداد أهالي الضحايا والإعلاميّين كلٌّ للجلوس في مكانه، تمهيداً للاستماع الى مضمون الإدّعاء والتفاصيل والأدلّة.
في بداية السرد بالصور والسياقات العامة لطريقة حصول الجريمة، بدا واضحاً أنَّ التحقيق الدولي قد زوَّد الادّعاء بأكثر التحقيقات حرفيةً، ذلك أنّ منهجية ما عُرض تقود حكماً، كما تابع الكثير من القانونيّين على هامش الجلسة، الى استنتاج أنَّ لجنة التحقيق الدولية أنجزت عملها باحتراف لافت، في كلّ مراحل التحقيق، والمتعلقة بمراقبة الحريري، وتفخيخ سيارة "الميتسوبيتشي"، وشريط "أبو عدس"، والمتابعة العملانية لتنفيذ الاغتيال.
ولعلَّ الأبرز في منهجية مضمون الإدّعاء، تقسيم محاور تنفيذ الاغتيال، الى خمس فئات: توقيت قرار الاغتيال المرتبط مباشرة باستقالة الحريري، التحرّكات المادية للحريري في بيروت خصوصاً يوم مقتله، استدراج "أبو عدس" بعيداً عن عائلته لتصوير الفيلم المزوّر وتحويله كبش محرقة، شراء فان "الميتسوبيتشي كاونتر" في 25 كانون الثاني، والأفعال التي ارتكبت في الساعات التي تلت الاغتيال.
في هذه الفئات الخمس استفاض الادّعاء العام في شرح ما توصّل اليه التحقيق في تحليل داتا الاتصالات. بدءاً من المجموعة الخضراء الثلاثية التي استعملها مصطفى بدرالدين وسليم عياش وحسن مرعي، والأخيران لم يكونا على تواصل هاتفي بينهما بل مع بدر الدين، مروراً باللوائح الزرقاء والحمراء والصفراء التي أسهب القرار الاتّهامي في شرح نشوئها ومصدرها ومستعمليها، مع كتمان بعضهم وتسمية آخرين، والأماكن التي تمّ شراء الخطوط منها، أو التي شُحنت فيها، ودائماً بهويّات مزوّرة، كما في طرابلس وفرن الشبّاك، ومع تفصيلات حول شبكة الهواتف التراكمية التي فصلت كلّ الأرقام التي استعملها بدرالدين (استعمل 13 رقماً هاتفيّاً منذ أواخر التسعينات).
الإسهاب في شرح طريقة عمل المنفّذين في شراء الهواتف واستعمالها لا يترك شكّاً في طريقة عمل الجهاز الأمني المحترف، فهذه الخطوط الهاتفية يتمّ شراؤها بعد تجهيل شخصية الشاري، ثمّ تُستعمل كشبكة مقفلة لتنفيذ العمل الأمني، ثم تزداد (كاللائحة الزرقاء) التي ارتفع عددها ومشغّليها فور استقالة الحريري نظراً لحاجة فريق المراقبة الى زيادة العدد، حيث وُضع الحريري تحت المراقبة اليومية من قريطم إلى فقرا إلى المطار إلى مجلس النواب، منذ كانون الأوّل وحتى اغتياله.
يمكن وصف اليوم الأوّل للادّعاء بأنّه يوم تحليل الاتصالات، وتقديم الخلاصات في كلّ المحاور الخمسة لعملية الاغتيال التي استمرّ التحضير لها أربعة أشهر ونصف الشهر. تحليل الاتصالات قاد من خلال التزامن المكاني الى تحديد وجود سليم عياش في مكان الاغتيال، وتحديد المجموعة وتحليل الاتصالات والشبكات المتداخلة، أعطى الأدلّة على ضلوع المتّهمين صبرا وعنيسي باختطاف أحمد "أبوعدس" من جامع الحوري، وتصوير الفيلم بإسم منظّمة جهادية وهمية، ويُنتظر أن يظهر الادّعاء مزيداً من الأدلّة وإفادات الشهود، ومنها إفادة شاهد عيان على هوية من اختطف أبو عدس، بالإضافة الى طريقة شراء بطاقة هاتف للاتصال بقناة "الجزيرة" لتعرض الفيلم بعد ساعات من الاغتيال.
أسئلة كثيرة يطرحها سياق الادّعاء على المتهمين، الذين ما زالوا يملكون قرينة البراءة حتى إثبات العكس. فما ورد في كلام الادّعاء عن أنّ المجموعة ليست إلّا جزءاً من مجموعة أكبر، يطرح تساؤلاً حول بقيّة المتهمين، خصوصاً الذين أشيرَ الى هويّاتهم بالرموز، وأحدهم كان على تواصل مع بدر الدين.
الأسئلة تمتد إلى ما هو أكثر من ذلك... فالاتّهام المثبت بالأدلّة يطاول أفراداً من الجهاز الأمني لـ"حزب الله"، والادّعاء يسير في سياق محاكمة مجموعة أفراد حضَّروا عملية اغتيال تتطلّب إمكانات جهاز كامل، وهذا ما سيقود مستقبلاً لفتح ملفّ من أعطى الأمر باغتيال رفيق الحريري.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك