شبح التغيير يسيطر على العالم.
ليس كل تغيير ثورة. وليست كل ثورة تؤدي إلى التغيير.
حفل القرن العشرون بالثورات وبالحروب التحريرية والحروب بين الدول. أنشأ نظاماً عالمياً مركباً ثلاثي الأبعاد، أو العوالم الثلاثة. انهار النظام العالمي منذ عقدين وظهرت أشكال جديدة من النزاعات. النزاع بين الدول الصناعية والمالية المتقدّمة للسيطرة، والنزاع بين هذه الدول وتلك النامية التي أحدثت فارقاً كبيراً على المستوى الاقتصادي كالصين والهند والبرازيل. والنزاع بين شكل السيطرة السابق السياسي والعسكري والاقتصادي وبين القوى الصاعدة والشعوب التي تسعى إلى علاقات دولية عادلة.
هناك فارق بين شكل الصراع السياسي وبين المحرّك الاقتصادي والاجتماعي. على المستوى السياسي يمكن لدولة كروسيا أو الصين أو الهند أن تبحث عن تعددية قطبية وعن اقتسام النفوذ وعن تعديل آليات النظام المالي العالمي كما كان قائماً منذ الحرب العالمية الثانية. لهذه الدول حاجات أمنية ومصالح قومية تتجلى في بعض المطالب الإقليمية، كعلاقة روسيا بجورجيا ودول المنظومة السوفياتية السابقة. أو كالدور الصيني في الهند الصينية أو على مستوى ضمان السلع الاستراتيجية العالمية كالنفط والغاز وخطوط إمدادهما. أما الدول الضعيفة فهي إما لا زالت تبحث عن شكل من أشكال استقلالها السياسي والاقتصادي أو عن محاولة تكوين منظومة أو رابطة إقليمية لكي يكون لها دورها الفاعل وصوتها المسموع وهي تتجسّد اليوم في دول الشرق الأوسط، أو في حركة دول وشعوب أميركا اللاتينية، أو بعض حركات التجمّع الأفريقي الأكثر هشاشة حتى الآن.
تخترق هذا المشهد كله أزمة كونية ناتجة عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي المسيطر. اقتصاد يهيمن فيه العنصر المالي شبه الوهمي غير المسند إلى إنتاج السلع وخاصة السلع التي تلبي الاحتياجات الأساسية. واقتصاد معولم يخلق تناقضات معقدة بين المراكز المالية والمراكز الصناعية، وبين هذه ومعظم الدول والشعوب الأقل تطوراً والأكثر اعتماداً على سلع وتكنولوجيا العالم الأول المتقدم. وهي في معظمها دول تملك ثروات طبيعية لا تستطيع إدارتها في خدمة الاستقلال والتنمية.
تتخذ الصراعات العالمية ثلاثة أشكال سياسية. صراعات الدول وفي بُعد أساسي منها الحروب. صراعات العالمين النامي والعالم المتقدم، وفيه خليط من النزعات الإيديولوجية والمتعلقة بالهويات للتعبير عن الاستقلال السياسي، والنزعات الاقتصادية التي تتخذ شكل مقاومة النهب أو التحكّم بالثروات أو الاحتكار. والصراعات داخل العالم المتقدم ضد تمركز الثروة والاحتكار والبطالة والتهميش والفقر وغياب الرعاية الاجتماعية وفقدان المعنى الإنساني للجهد والإنتاج والعمل. يؤدي ذلك إلى ظاهرات رفض «الدين الجديد» المتمثل في قيم الاستهلاك والربح والاغتراب والفراغ الروحي.
منذ الأزمة المالية التي انفجرت في أميركا وأخذت تتوسّع تداعياتها في أوروبا مهددة ليس فقط بإفلاس المصارف والشركات المالية الكبرى بل الدول كما حصل لليونان وكما هو متوقع لإيطاليا لم تحصل معالجة جذرية للنظام المالي ولا حصلت تحولات حقيقية في مسار الاقتصاد العالمي. سعت أميركا للسيطرة ولاستدراج المزيد من الفوائض النقدية دون التخلي عن النظام السابق. جرى إنقاذ بعض المصارف ودعم السيولة في أوروبا ونشأت هيئة الدول العشرين للتعاون في تغطية الأزمة. اعترفت أميركا بدور هذه الدول مالياً واقتصادياً ولم تعترف لها بعد بدور في إدارة النظام العالمي ولم تقبل بعد في صياغة نظام متعدد الأقطاب وتعديل المنظومة الدولية التي تتجسد في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
للأزمة العالمية وجهان. هي أزمة النظام الرأسمالي العالمي المسيطر. وهي أزمة العلاقات الرأسمالية ذاتها. قد لا تملك الإرادة البشرية الآن إمكانات عملية واقعية لتنظيم مجتمع عالمي مختلف جذرياً أو نظام اقتصادي بديل. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن العالم محكوم بأن يقبل التوازنات الواقعية الجديدة بين أطرافه، وأن يحسّن على نحو ملموس العلاقة بين الثروة والعمل، بين سلطة المال والحاجات الإنسانية، بين التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. هذا هو معنى ما يجري الآن في أكثر من ثمانين دولة وأكثر من ألف مدينة عالمية احتجاجاً على سلطة المال وسلطة الثروة والنتائج الاجتماعية والإنسانية لذلك. حركة «نهوض الشعوب» التي تقودها جماعات لا تملك إيديولوجيا أو تنظيماً سياسياً بالمعنى المعروف لحركات التغيير و«الثورة» مزيج من كل ألوان الاحتجاج والاعتراض الثقافي والسياسي والاجتماعي.
تتوجّه هذه الحركة إلى «الشعوب» وليس إلى فئات اجتماعية أو مناطق جغرافية لأنها تدرك نتيجة العولمة التي نقلت السلطة الفعلية في العالم إلى «السلطة المالية» الاحتكارية الممتدة والمتشعبة داخل الأسواق والمجتمعات والقطاعات والدول. تمثل هذه الحركة روح الفكر الذي أخذ يتبلور في ستينيات القرن الماضي ضد النظام الرأسمالي العالمي كعلاقات اجتماعية وكعلاقات بين شعوب الأرض، وضد «التجربة الاشتراكية» المأزومة والفاشلة التي انتهت إلى السقوط. ميزة هذا الفكر أنه أدرك هذا التناقض الجديد الذي لم تعد فيه الرأسمالية العالمية في طورها الإمبريالي قادرة على إعطاء شعوبها امتيازات جراء نهبها للشعوب الأخرى. الرأسمالية المتوحشة أو الليبرالية الجديدة التي سادت في دول المركز «تحرّرت» من أعباء الضغط الذي كانت تمارسه عليها حركات الشعوب بأحزابها أو بقواها النقابية وبقوة «الفكرة الاشتراكية» أو بمنافسة «النموذج الاشتراكي» الذي استلهمته دول العالم الثالث في خطط التنمية بعد الاستقلال.
مع الليبرالية الجديدة سقطت دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب وتقلصت حماية الدولة للحد الأدنى من المكتسبات وحاصرت نماذج عرفتها بعض الدول التي تبنّت ما يُسمّى «الاشتراكية الديموقراطية». تخفّفت فرنسا تدريجاً من عبء الرعاية الاجتماعية ما أدى إلى حركات احتجاج متتالية. واجهت أميركا الأزمة المالية بقرار دعم الخدمة الصحية والضمان الصحي. لكن أكثر من خمسين مليون عاطل عن العمل يعيشون في أميركا وأوروبا الغربية. وهناك البطالة المقنّعة والملايين الذي يمارسون العمل الموسمي وأشكالاً من الاقتصاد الطفيلي.
في هذا المناخ العالمي، مناخ الأزمات ومناخ التغيير، انطلقت حركة «الربيع العربي». إذا كان الغرب يبحث عن «تجديد الديموقراطية» كما يقول المحتجون، فإن العرب يبحثون عن الديموقراطية من أساسها وعن الحرية وعن الكرامة الإنسانية المهدورة مدنياً واجتماعياً.
يستكثر البعض على هذا الحراك العالمي مفهوم «الثورة». استكثرها على العرب ويستكثرها على الحراك العالمي لأنها لا تطابق النظريات والكتب. ليست النظريات التي تصنع الثورة، بل الشعوب هي التي تنتج فكرها وتجاربها عبر تاريخ متغيّر. قلنا إن شبح التغيير يخيّم على العالم. لكن الحقيقة أن «شبح الثورة يخيّم على العالم». ثورة لا يمكن أن تقلّد «كومونة باريس» ولا غيرها لأن العالم تغيّر بأنظمته، بقواه الاجتماعية، بوعيه وثقافته ووسائله.
الأفضل أن نصغي إلى حركة الشعوب الحية لا أن نجادل في اللغات الميتة.
شبح التغيير
سليمان تقي الدين
السفير
شبح التغيير يسيطر على العالم.
ليس كل تغيير ثورة. وليست كل ثورة تؤدي إلى التغيير.
حفل القرن العشرون بالثورات وبالحروب التحريرية والحروب بين الدول. أنشأ نظاماً عالمياً مركباً ثلاثي الأبعاد، أو العوالم الثلاثة. انهار النظام العالمي منذ عقدين وظهرت أشكال جديدة من النزاعات. النزاع بين الدول الصناعية والمالية المتقدّمة للسيطرة، والنزاع بين هذه الدول وتلك النامية التي أحدثت فارقاً كبيراً على المستوى الاقتصادي كالصين والهند والبرازيل. والنزاع بين شكل السيطرة السابق السياسي والعسكري والاقتصادي وبين القوى الصاعدة والشعوب التي تسعى إلى علاقات دولية عادلة.
هناك فارق بين شكل الصراع السياسي وبين المحرّك الاقتصادي والاجتماعي. على المستوى السياسي يمكن لدولة كروسيا أو الصين أو الهند أن تبحث عن تعددية قطبية وعن اقتسام النفوذ وعن تعديل آليات النظام المالي العالمي كما كان قائماً منذ الحرب العالمية الثانية. لهذه الدول حاجات أمنية ومصالح قومية تتجلى في بعض المطالب الإقليمية، كعلاقة روسيا بجورجيا ودول المنظومة السوفياتية السابقة. أو كالدور الصيني في الهند الصينية أو على مستوى ضمان السلع الاستراتيجية العالمية كالنفط والغاز وخطوط إمدادهما. أما الدول الضعيفة فهي إما لا زالت تبحث عن شكل من أشكال استقلالها السياسي والاقتصادي أو عن محاولة تكوين منظومة أو رابطة إقليمية لكي يكون لها دورها الفاعل وصوتها المسموع وهي تتجسّد اليوم في دول الشرق الأوسط، أو في حركة دول وشعوب أميركا اللاتينية، أو بعض حركات التجمّع الأفريقي الأكثر هشاشة حتى الآن.
تخترق هذا المشهد كله أزمة كونية ناتجة عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي المسيطر. اقتصاد يهيمن فيه العنصر المالي شبه الوهمي غير المسند إلى إنتاج السلع وخاصة السلع التي تلبي الاحتياجات الأساسية. واقتصاد معولم يخلق تناقضات معقدة بين المراكز المالية والمراكز الصناعية، وبين هذه ومعظم الدول والشعوب الأقل تطوراً والأكثر اعتماداً على سلع وتكنولوجيا العالم الأول المتقدم. وهي في معظمها دول تملك ثروات طبيعية لا تستطيع إدارتها في خدمة الاستقلال والتنمية.
تتخذ الصراعات العالمية ثلاثة أشكال سياسية. صراعات الدول وفي بُعد أساسي منها الحروب. صراعات العالمين النامي والعالم المتقدم، وفيه خليط من النزعات الإيديولوجية والمتعلقة بالهويات للتعبير عن الاستقلال السياسي، والنزعات الاقتصادية التي تتخذ شكل مقاومة النهب أو التحكّم بالثروات أو الاحتكار. والصراعات داخل العالم المتقدم ضد تمركز الثروة والاحتكار والبطالة والتهميش والفقر وغياب الرعاية الاجتماعية وفقدان المعنى الإنساني للجهد والإنتاج والعمل. يؤدي ذلك إلى ظاهرات رفض «الدين الجديد» المتمثل في قيم الاستهلاك والربح والاغتراب والفراغ الروحي.
منذ الأزمة المالية التي انفجرت في أميركا وأخذت تتوسّع تداعياتها في أوروبا مهددة ليس فقط بإفلاس المصارف والشركات المالية الكبرى بل الدول كما حصل لليونان وكما هو متوقع لإيطاليا لم تحصل معالجة جذرية للنظام المالي ولا حصلت تحولات حقيقية في مسار الاقتصاد العالمي. سعت أميركا للسيطرة ولاستدراج المزيد من الفوائض النقدية دون التخلي عن النظام السابق. جرى إنقاذ بعض المصارف ودعم السيولة في أوروبا ونشأت هيئة الدول العشرين للتعاون في تغطية الأزمة. اعترفت أميركا بدور هذه الدول مالياً واقتصادياً ولم تعترف لها بعد بدور في إدارة النظام العالمي ولم تقبل بعد في صياغة نظام متعدد الأقطاب وتعديل المنظومة الدولية التي تتجسد في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
للأزمة العالمية وجهان. هي أزمة النظام الرأسمالي العالمي المسيطر. وهي أزمة العلاقات الرأسمالية ذاتها. قد لا تملك الإرادة البشرية الآن إمكانات عملية واقعية لتنظيم مجتمع عالمي مختلف جذرياً أو نظام اقتصادي بديل. لكن هذا لا يلغي حقيقة أن العالم محكوم بأن يقبل التوازنات الواقعية الجديدة بين أطرافه، وأن يحسّن على نحو ملموس العلاقة بين الثروة والعمل، بين سلطة المال والحاجات الإنسانية، بين التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. هذا هو معنى ما يجري الآن في أكثر من ثمانين دولة وأكثر من ألف مدينة عالمية احتجاجاً على سلطة المال وسلطة الثروة والنتائج الاجتماعية والإنسانية لذلك. حركة «نهوض الشعوب» التي تقودها جماعات لا تملك إيديولوجيا أو تنظيماً سياسياً بالمعنى المعروف لحركات التغيير و«الثورة» مزيج من كل ألوان الاحتجاج والاعتراض الثقافي والسياسي والاجتماعي.
تتوجّه هذه الحركة إلى «الشعوب» وليس إلى فئات اجتماعية أو مناطق جغرافية لأنها تدرك نتيجة العولمة التي نقلت السلطة الفعلية في العالم إلى «السلطة المالية» الاحتكارية الممتدة والمتشعبة داخل الأسواق والمجتمعات والقطاعات والدول. تمثل هذه الحركة روح الفكر الذي أخذ يتبلور في ستينيات القرن الماضي ضد النظام الرأسمالي العالمي كعلاقات اجتماعية وكعلاقات بين شعوب الأرض، وضد «التجربة الاشتراكية» المأزومة والفاشلة التي انتهت إلى السقوط. ميزة هذا الفكر أنه أدرك هذا التناقض الجديد الذي لم تعد فيه الرأسمالية العالمية في طورها الإمبريالي قادرة على إعطاء شعوبها امتيازات جراء نهبها للشعوب الأخرى. الرأسمالية المتوحشة أو الليبرالية الجديدة التي سادت في دول المركز «تحرّرت» من أعباء الضغط الذي كانت تمارسه عليها حركات الشعوب بأحزابها أو بقواها النقابية وبقوة «الفكرة الاشتراكية» أو بمنافسة «النموذج الاشتراكي» الذي استلهمته دول العالم الثالث في خطط التنمية بعد الاستقلال.
مع الليبرالية الجديدة سقطت دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب وتقلصت حماية الدولة للحد الأدنى من المكتسبات وحاصرت نماذج عرفتها بعض الدول التي تبنّت ما يُسمّى «الاشتراكية الديموقراطية». تخفّفت فرنسا تدريجاً من عبء الرعاية الاجتماعية ما أدى إلى حركات احتجاج متتالية. واجهت أميركا الأزمة المالية بقرار دعم الخدمة الصحية والضمان الصحي. لكن أكثر من خمسين مليون عاطل عن العمل يعيشون في أميركا وأوروبا الغربية. وهناك البطالة المقنّعة والملايين الذي يمارسون العمل الموسمي وأشكالاً من الاقتصاد الطفيلي.
في هذا المناخ العالمي، مناخ الأزمات ومناخ التغيير، انطلقت حركة «الربيع العربي». إذا كان الغرب يبحث عن «تجديد الديموقراطية» كما يقول المحتجون، فإن العرب يبحثون عن الديموقراطية من أساسها وعن الحرية وعن الكرامة الإنسانية المهدورة مدنياً واجتماعياً.
يستكثر البعض على هذا الحراك العالمي مفهوم «الثورة». استكثرها على العرب ويستكثرها على الحراك العالمي لأنها لا تطابق النظريات والكتب. ليست النظريات التي تصنع الثورة، بل الشعوب هي التي تنتج فكرها وتجاربها عبر تاريخ متغيّر. قلنا إن شبح التغيير يخيّم على العالم. لكن الحقيقة أن «شبح الثورة يخيّم على العالم». ثورة لا يمكن أن تقلّد «كومونة باريس» ولا غيرها لأن العالم تغيّر بأنظمته، بقواه الاجتماعية، بوعيه وثقافته ووسائله.
الأفضل أن نصغي إلى حركة الشعوب الحية لا أن نجادل في اللغات الميتة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك