جاء في صحيفة "السياسة" الكويتية: لا يختلف لبنانيان على أن خطة محلية - خارجية "منهجية"، استمر تطبيقها على الأقل عقدين من الزمن، جعلت مدينة طرابلس، ساحة خصبة لتبادل الرسائل الإقليمية، ووضعت أهلها - الفقراء بغالبيتهم الساحقة - بين مطرقة تمسكهم بـ"طائفيتهم" و"دفاعهم" عن أنفسهم وسندان الجهل والتشدد نتيجة غياب الخطط الفعلية للتنمية، على اعتبار أن عاصمة الشمال، من منظور السياسيين، لاحاجة لها إلا في المواسم الانتخابية وفي زمن الحشود الجماهيرية.
وشاء القدر أن يفصل بين منطقتي التبانة "السنية" المؤيدة للثورة السورية وجبل محسن "العلوي" المؤيد لنظام الأسد، شارع يحمل اسم "سورية" ويختزل سنوات من صراعات أهالي المنطقتين.
مع اندلاع الثورة في سورية منتصف مارس الماضي, ترسخ الشرخ العمودي بين المنقطتين: "فوق" في جبل محسن صور الأسد ولافتات التأييد، و"تحت" في التبانة صور الشهداء وعبارات التنديد بالجرائم والتضامن مع الثورة.
ورغم الخلافات العميقة بين "فوق" و"تحت" إلا أن قواسم مشتركة كثيرة تجمع المنطقتين، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: الفقر، والجهل، والأمية، والبطالة، والتشدد الطائفي، وغياب الدولة بجميع أجهزتها - عدا الاستخباراتية طبعاً - فضلاً عن الوضع المزري للبنى التحتية من كهرباء وماء, إضافة إلى التلوث البيئي وانتشار القمامة في الشوارع.
ومن أبرز الأمور المشتركة بين المنطقتين هي التنشئة العسكرية, ففي التبانة وجبل محسن يتحول الفتى مقاتلاً منذ بلوغه العاشرة من عمره, بدلاً من إكمال دراسته, بهدف "الدفاع عن النفس", فأهالي جبل محسن يعتبرون أن السلاح وحده يحميهم لأنهم أقلية, فيما يرى أهالي التبانة أن التسلح ضروري لمواجهة الاعتداءات من الطرف الآخر والتصدي لمخططات النظام السوري.
وما يعزز أجواء "العسكرة"، مشكلة البطالة في طرابلس، فالمدينة بحسب أهلها "قرية" لا عمل فيها والبديل هو العاصمة بيروت.
لكن ماهو المتوافر في بيروت لأهالي طرابلس وعكار تحديداً،
تكفي جولة واحدة على المطاعم والمقاهي والملاهي الليلية في بيروت وجونية والأشرفية وغيرها، لتكشف أن الغالبية الساحقة من العاملين في هذه الأماكن هم من أهالي عكار وطرابلس.
يجزم المطلعون بعمق على الشأن الطرابلسي بأن الحرب بين جبل محسن والتبانة واقعة لا محالة،وأن النقاش يدور بشأن الأسباب والتوقيت.
ويرى البعض أن سقوط النظام السوري يعني حرباً ضارية بين المنطقتين قد تمتد لأسابيع وأشهر يرفع خلالها العلويون شعار "القتال حتى الموت للبقاء"، فيما يعتقد آخرون أن بقاء النظام السوري في السلطة سيؤدي إلى مواجهات أيضاً يرفع خلالها اهالي التبانة شعار "الانتقام"، وهو مابرز في المواجهات الأخيرة, حين قال البعض: جبل محسن مقابل بابا عمرو.
انطلاقاً من تمسك كلا الطرفين بالدفاع عن طائفته، يعيش أهالي التبانة وجبل محسن يومياً هاجس "الحرب الحتمية".
وإذا كان الشبان الذين يعتمدون على الأموال التي تدفع لهم للمشاركة في الاشتباكات ينتظرون المواجهة ويشتاقون إليها، فإن الغالبية الساحقة من أهالي المنطقتين سئمت المواجهات المستمرة منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي التي دفعت وستدفع ضريبة المعارك العبثية, قتلاً وتشريداً وتهجيراً.
لم تفلح مبادرات المجتمع المدني القليلة، في تخفيف حدة الاحتقان بين الأهالي، حيث اصطدمت جميعها في النهاية بواقع الطائفية المرير، وتمسك كل طرف بالسلاح سبيلاً للتخاطب.
والمفارقة أن أهالي المنطقتين يعلنون صراحة أن المواجهة بينهما قرار يتخذ خارج طرابلس، ويقرون أيضاً بأنهم وقود لمعارك الآخرين، ومع ذلك يسارعون إلى تجهيز أسلحتهم مع أول طلقة رصاص تسمع في المنطقة.
بعضهم يحمله لحماية عائلته والدفاع عن النفس لأن الأمور تفلت من عقالها سريعاً، والبعض الآخر يحمله للهجوم على أهالي المنطقة المقابلة.
يقول طرابلسي مطلع: "ان الجرح بين التبانة وجبل محسن وُجد ليستمر بالنزيف, ولا توجد بارقة امل لأن يندمل في المدى المنظور، وان بقاء المنطقتين في حالة فقر دائم ومتجدد مع تجدد الأجيال يجعل من المستحيل التوصل إلى حل".
ويضيف: "لا حل للمعضلة إلا بالتنمية الاقتصادية وايجاد فرص عمل للشباب تبعدهم عن أجواء الحرب وتجعلهم يقيمون جيداً خسائرها، أما اليوم فغالبية الشباب تنتظر المعارك لتقبض أموالاً لقاء مشاركتها في القتال".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك