لم يكن ينقص «المفكرين» ضمن مسيحيّي 14 آذار غير خطاب باراك حسين أوباما، ليرفعوا صوتهم أكثر بصرختهم القديمة الجديدة: والآن ماذا يريد مسيحيّو الشرق الأوسط أو المشرق بعد؟ ألم يدركوا أنّ ثمّة منطقة، تشمل أكثر من قارة، تتغير برمّتها؟ ألم يقتنعوا بعد بأن هناك أكثر من 250 مليون نسمة ينتقلون من ضفة الى ضفة أخرى من التاريخ؟ هل يمكنهم أن يتوهّموا أنّ بإمكان مليون مسيحي في لبنان أن يحولوا دون ذلك؟ هل ثمّة من يعتقد أو يتخيل بينهم، أنه قادر على أن يقول لحركة التاريخ: توقفي لأنني أخشى من سير عجلاتك، أو لأنّ اتجاهها ليس في مصلحتي أو لأنني لم أفهمه بعد؟
السياق نفسه، يقول هؤلاء، واجهته المنطقة وجماعاتها في الربع الثاني من القرن العشرين. كانت ثمة إمبراطورية عثمانية تسقط، وتُسقط معها نظاماً عاش وعاشت المنطقة وجماعاتها في ظله نحو أربعة قرون، تماماً كالنظام المتهاوي اليوم من حولنا. وتماماً كما الآن، بدرت عن الجماعة المسيحية بين لبنان وجواره، ردود فعل متباينة. بعضهم راهن على النظام الجديد. على الغرب والبارجة الفرنسية القادرة على إعادتنا من منافي باريس والقاهرة الى السلطة في بيروت. نعلن ولاءنا للمنتصر في الحرب، ونركِّب معه سلطة ما في أي إطار يراه هو مناسباً أو قابلاً للحياة.
البعض الآخر، لجأ الى رد فعل مناقض. استذكر أمثال الجدّات الشعبية عن «تغيير الدول»، فلاذ بالصمت والانكفاء وسياسة الهروب والاستقالة والانتظار، تحت شعار «عدم التدخّل بما لا يعنينا»، لكن بين الطرفين، انبرى فريق ثالث، بأفكار مبتدعة خلاقة. اختلف مع الاثنين. فبدأ أقلية متجاهَلة، ثم مرفوضة، ومن ثم محارَبة... قبل أن تصير هي الأكثرية وتنتصر وتنقذ لبنان وجماعاته. كان طرف ثالث، واجه تحديات الخارج والداخل، بطروحات مفاجئة. خارجياً، لم يقل بالرهان على الغرب المنتصر، بل على العكس أعلن تجديد الرابطة العربية مع المحيط، بما هي إطار حضاري جامع، ومنفتح على العالم والعصر. فلا انغلاق ولا استتباع. وداخلياً، لم يختبئ خلف استراتيجية الانتظار، بل اجترح مفهوم الميثاق الوطني، بوصفه نظاماً ديموقراطياً متوازناً ومتحركاً، لمقاربة المعضلات اللبنانية التاريخية والدائمة. هكذا بين عامي 1920 و1943، كان ثمة مسيحيون ملتحقون بفرنسا، لكنهم لم ينقذوا جماعتهم ولا لبنان. وكان ثمة مسيحيون آخرون مع سياسة الصمت ودفن الرأس، لكنهم أيضاً لم يُخرجوا ناسهم من المأزق ولم يجنّبوهم العاصفة. وحدهم الذين بادروا صوب المحيط بالانفتاح، وصوب الشريك بالميثاق، أوجدوا لبنان.
السياق التاريخي نفسه، يتابع هؤلاء، تكرّر منذ عقد واحد فقط. سنة 2001، جاءت عاصفة 11 أيلول، وبدأت غيوم الحروب تتجمّع فوق المنطقة. ومرّة جديدة حصل الفرز الواضح على الساحة المسيحية. فريق قال بأن الرد الأميركي على «غزوة» بن لادن سيطيح كل نظام المنطقة ورؤوسها، وبالتالي فلنقفز على صهوة حصان بوش حتى لو كان فيلاً في مخزن للبورسلين. فكلما كان الفخار المتكسر أكثر، كانت فرصتنا أكبر. وبدأت التركيبات على هذا الخط: من «محاسبة سوريا» إلى القرار 1559، وصولاً الى كل السيناريوهات الأمميّة الرائجة الآن.
وفي المقابل، كان على الساحة المسيحية رأي انتظاري انكفائي استقالي أيضاً: علينا ألّا نفعل شيئاً، وأن نختفي ونختبئ ونخفي حسَّنا وصوتنا ورأينا وحتى النظر. نكتفي إذا أمكننا الهمس، برفع مطلب محدّد صغير، كخروج سجين أو انتقاله من طبقة إلى أخرى.
لكنّ أياً من هذين الفريقين المسيحيين ـــــ تقول القراءة ـــــ لم يكن فاعلاً أو حاسماً في تقديم مقاربة مقنعة دولياً لتغيير الوضع اللبناني، بل الفضل الأساس يعود إلى فريق ثالث، تمثّل يومها في ما كان يعرف بقاطرة لقاء قرنة شهوان. وهو الفريق الذي ـــــ تماماً على طريقة ميثاقيّي الاستقلال الأول ـــــ رفع شعارين مبتكرين للمواجهة: أولاً أنّ الحل الثابت والجذري للأزمة اللبنانية يقتضي تحقق تلك المعادلة الثلاثية: دولة السيادة في بيروت، بين دولة الاستقلال في فلسطين ودولة المعاصَرة في دمشق. وثانياً، أن الهجوم الأميركي على المنطقة تحت شعار دمقرطتها، يغفل أن السببين العميقين لأزمات منطقتنا يكمنان في قيام كيان إسرائيل وتمادي اغتصاباته، كما في عدم تمكن النموذج التعددي الديموقراطي الوحيد في المنطقة ـــــ أي لبنان ـــــ من الحياة على نحو سليم. والسببان معزوّان الى سياسة واشنطن لا غير. هكذا نجح هذا الفريق في فتح خط سياسي مسيحي جديد، حتى كان زلزال عام 2005، فصارت تلك اللغة بالذات قاموساً للحلّ.
السياق نفسه يحضُر اليوم، فما هو الخطاب الذي يقدمه أصحاب تلك القراءة، لكل من الخطابين المسيحيين المتناقضين، وتحديداً لعون وجعجع؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك