لن تطول «الهدنة النسبية» في سوريا. وخلاصة ما جرى: رَبِح الرئيس بشّار الأسد جولة جديدة في لعبة كسب الوقت. لقد أصبح بطل الأرقام القياسية في هذه اللعبة. والقوى العربية والدوليّة باتت بطلة الأرقام القياسية في العجز أو اللامبالاة أو التواطؤ...
هل هناك رغبة عربية - دولية خبيثة للوصول بسوريا إلى أحد خيارين: إنهاء الثورة أو إشعال الحرب الأهليّة؟
هذا السؤال بات وحده جديراً بالاهتمام. فالمراهنة على نجاح مبادرة كوفي أنان مجرّد سذاجة. والمؤكّد أنّ الوسيط العربي الدولي نفسه لم يكن يصدّق أنّ الموعد الذي حدّده الرئيس السوري لالتزام المبادرة هو موعد جدّي. لكنّه وافق على رغم ذلك. وهو ملأ الوقت الضائع بمحاولة "إقناع" موسكو وطهران بـ"إقناع" الأسد. لكنّ مرجعاً يمتلك الخبرة كأنان لا يصدّق أنّ المحاولة ستنجح. فلا روسيا ولا إيران ستوافقان يوماً على صيغة تُبدّل النظام في سوريا، لا بالإصلاح الديموقراطي ولا بوسائل أخرى. وإذا كانت المعارضة السوريّة تتوهّم بذلك، فهي ستدفع الثمن حتماً!
ماذا يفعل أنان إذاً؟
هل هو مكتوف الأيدي نتيجة العجز العربي والدولي في حسم الخيارات مع الأسد؟ أم إنّه يوفّر للرئيس السوري، ولو عن غير قصد، الوقت الذي يحتاج إليه لسحق الانتفاضة؟ أم إنّه يساهم في إنضاج الظروف التي تسمح باندلاع حرب أهلية حقيقية وطويلة الأمد، تنفيذاً لمخطّط دوليّ يرمي إلى تغيير المنطقة بأنظمتها وشعوبها والخرائط؟
هذه الاحتمالات الثلاثة لها مبرّراتها. لكنّها جميعاً تؤشّر إلى كارثة في سوريا. فمهمّة أنان ليست في نظر الأسد سوى تكرار لمهمّة نبيل العربي. لكنّ الفارق يكمن في أنّ الجامعة العربية ارتاحت من كرة النار ورَمَتها في ملعب مجلس الأمن، أمّا المجلس فلا يستطيع أن يتهرّب من المسؤولية ويلقيها في ملعب أحد. ولذلك، إنّ وساطة أنان هي ورقة التسوية الأخيرة في دمشق، ولن يكون صالحاً بعدها سوى التدخّل العسكري. وأمّا إذا تُرِك الطرفان يتصارعان وفقاً للموازين الحاليّة، فهذا يعني أنّ سوريا تدخل حرباً أهلية لا هوادة فيها، وسيُهدَر فيها الكثير من الدماء.
خطة الأسد لإنهاك الخصوم
سياسة الأسد نجحت، مرحليّاً، في تقطيع المراحل وتنفيس الضغوط هرباً من تقديم أيّ تنازل فعليّ. وتعتمد خُطّته، مع الجامعة العربية ثمّ مع مجلس الأمن، على التدرّج الآتي: يفاوض أوّلاً على مبدأ قبول المبادرة. ثمّ يفاوض على المبادرة عينها. ثمّ يناور في تطبيقها. ثمّ يرمي بالمسؤولية عن فشل التطبيق على سواه. وفي خلال هذا المسار، يكون المفاوضون قد تعبوا، والمعارضون أصيبوا بالضعف أو التشتّت. وتزامُناً، يرمي "في السوق" كمّيات من المبادرات والوعود والتعهّدات الإصلاحيّة، مشفوعةً بتسريع عمليّات القمع، للمفاوضة من موقع قوّة.
هذه السياسة في التملّص من الضغوط كافية، حتى الآن، لإبقاء الأسد في السلطة، لكن السؤال هو: هل ستكون كفيلة بإبقائه فيها إلى ما لا نهاية؟
ليس في الأفق ما يوحي بأنّ الرئيس السوري مقبل على حسم المعركة مع معارضيه، وفق ما يشتهي. والانتصارات العسكرية التي يحقّقها على مدنٍ وأحياء لا تَضْمَن إخماد الحراك الشعبي ضدّه. ولكن، في المقابل، ليس في قدرة المعارضة أن تخوض معركة متكافئة مع الآلة العسكرية القوية، والتي لا تزال إجمالاً متماسكة حول الأسد. وستحتاج المعارضة في مراحل لاحقة إلى مزيد من السلاح والتدريب ومنطقة عازلة لتتمكّن من بناء توازن أكبر مع النظام. وثمّة أصوات متزايدة في واشنطن وحليفاتها الأوروبّيات تدعو إلى ذلك. وهذه الأصوات سترتفع بعد انكشاف فشل المبادرة الدولية وعبثية إرسال مراقبين دوليّين إلى سوريا، في تكرار للتجربة العربية.
إنّها الحرب الأهلية. ولا يصحّ القول إنّها ستقع لاحقاً، لأنّها بدأت فعلاً. وإلّا، فما هي التسمية التي يمكن إطلاقها على ما يجري منذ عام، والذي ذهب ضحيته أكثر من 11 ألف قتيل؟ وبعد هذه الحرب لن تكون سوريا بالتأكيد هي عينها التي نعرفها اليوم: لا بالسلطة التي تحكمها، ولا ربّما بوحدة أهلها وحدودها الجغرافية.
إذا لم يكن هذا ما يُراد لسوريا، فالحلّ الوحيد هو أن يتدخّل مجلس الأمن جدّياً للحسم وإطفاء النار قبل أن تأكل كلّ شيء، فلا يعود هناك شيء لإطفائه.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك