عطّلت الصفقة السياسية التي عُقدت قبل أيّام النكهة الخاصة بجلسة المناقشة في ساحة النجمة، فتحوّلت من فيلم مشوّق إلى آخر رتيب ومُملّ، نبش فيها الخطباء دفاترهم العتيقة، فلم يتطرّق أيّ منهم إلى المستقبل لفقدان أيّ رؤية لما يحمله الغد إلى لبنان واللبنانيّين. كيف ولدت هذه الصفقة؟
عندما حدّد رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي قبل شهر تقريباً موعد جلسة مناقشة ومحاسبة الحكومة كانت كلّ المؤشّرات تدلّ إلى احتقان في الشارع وعلى مستوى الطبقة السياسية في آن على خلفية الملفّات المفتوحة على شتّى الاحتمالات وخصوصاً الاجتماعية والخدماتية منها، بدءاً من ملفّ الكهرباء إلى الغلاء إلى الرواتب والأجور ومرسوم النقل والأقساط المدرسية، إلى أزمة المليارات القديمة والجديدة، إلى ما هنالك من ملفّات تلامس هموم الناس وحاجيّاتهم اليومية. وعد الرئيس برّي أركان المعارضة بجلسة مناقشة للبحث في سلسلة من الأسئلة الموجّهة الى الحكومة ووفى.
كان الرئيس برّي ومعه قادة كثُر، يدرك حجم القضايا العالقة التي تتوالد من رحم بعضها بعض. وكان يراقب منسوب الأجواء السلبية التي بلغت مستوى عالياً، وبدأت انعكاساتها تظهر بقوّة على كلّ صعيد سياسي وشعبي على مستوى أهل الحكم والمعارضة في آن. فكان لا بدّ من المواجهة لتنفيسها تحت قبّة البرلمان بدلاً من أن تنفجر في الشارع. وهكذا تلاقت مساعي الرئيس برّي وقادة آخرين مع حجم الهموم الحكوميّة التي تفاقمت بين أهل البيت الواحد، فكانت تردّدات تعليق جلسات مجلس الوزراء تتفاعل في السرّ والعلن على خلفيّة التعيينات الإدارية في الهيئات الرقابية، والتي تلاقت سلباً مع سيل المواقف من الصفقات الكهربائية التي انتشرت كالنار في الهشيم. فلامست بمخاطرها ما كان يعرف بالتحالفات المقدّسة، وتجاوزتها لتطاول شراراتها "اليباس" الذي أصاب "الغابة الحكومية" فانعكست على علاقات أهل البيت وتفجّرت بعد خروجها إلى العلن على شكل "تسونامي" الاتّهامات بالفساد والرشاوى، وواكبتها اتّهامات أخرى تتعلّق بحجم الصفقات في ملفّ البواخر المنتجة للطاقة، فباتت على قاب قوسين أو أدنى من أن تطيح بالحكومة.
على هذه الخلفيّات، وجد من يرسم صورة مأسويّة للوضع في البلاد عشيّة الجلسة النيابية العامّة فسعى بقدرة قادر إلى رسم مخرج يساوي بين حجم المخاطر المترتّبة على الوضع العام في لبنان لتجاوز الانفجار، أو على الأقل تأجيله، في ظلّ التداعيات الكبرى للأزمة السوريّة التي بدأت تطلّ بقرنها من خلال الهجوم المعاكس الذي بدأه حلفاء النظام في بيروت، في إطار سياسة المواجهة والردّ على الهجوم بهجوم معاكس، من خلال بعض نقاط الضعف في جسم المعارضة، والتي عزّزت من مخاطرها محاولة اغتيال رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع.
وعليه، يعترف العارفون أنّ كلّ هذه الأمور أقامت مظلّة سلبية فوق لبنان ووضعت البلاد في دائرة المخاطر الكبرى التي يمكن أن تطيح بكلّ ما تحقّق إلى اليوم ولا سيّما على مستوى الاستقرار الذي نعم به لبنان سياسيّا وأمنيّا واقتصاديّا.
في قناعة الذين سعوا إلى الصفقة التي حكمت أجواء الجلسة، كانت هناك رزمة من المؤشّرات السلبية دفعت باتّجاه تحرّك قام بعيداً من الأنظار، شاركت في صوغه قيادات لبنانية من أهل المعارضة والأكثرية وبإعانة ديبلوماسيّة عربية وغربية صديقة في آن لإمرار الجلسة بأقلّ الخسائر الممكنة، فلا يُقتل فيها الديب ولا يفنى الغنم.
فالمعادلة - المخرج كانت بسيطة، وقد تمّ تظهيرها في الأيّام التي سبقت الجلسة من خلال بعض المواقف التي سجّلها أهل الحكم والمعارضة والوسطيّون منهم على الشكل الآتي:
- تراجعت المعارضة عن تهديداتها بطرح الثقة بوزير أو أكثر أو بالحكومة بكاملها، طالما إنّ الأكثرية التي تحميها باتت في موقع آخر وخصوصاً في المجلس النيابي تزامُناً مع التفسّخ الحكومي الذي توسّع أخيراً إلى الحدود القاتلة. وفي قناعة المعارضة أنّ أيّ مشروع لطرح الثقة سيرتدّ سلباً على المطالبين بها وسيخرج من يتعرّض لهذا الامتحان الى ما يشبه البطل الذي أحيَته الثقة بدلاً من أن تودي به.
- تعهّدت الحكومة طيّ ملفّاتها الداخلية أو تأجيلها على الأقلّ، فتراجعت الحملات المتبادلة بين مكوّناتها وأُرجئت خطوات كانت تهدّد مصيرها باعتبار أنّ البديل غير جاهز ولا حاجة لمعارك داخلية والتغيير الحكومي غير ممكن لا باتّجاه حكومة تكنوقراط أو أيّ شكل آخر. فألغت اللقاءات غير المعلنة كثيراً ممّا ظهر من خلافات الى العلن وعادت الى بطون الأزمة الحكوميّة وكواليسها على رغم ما يحيط بذلك من ورم قائم فوق زغل.
- تقدّم الوسطيّون خطوات إلى الأمام، فنأى رئيس الجمهورية بنفسه عن الانقسام السياسي الداخلي، ودفع الحكومة باتّجاه السعي الى معالجة الوضع الماليّ بالتعاون مع مكوّنات المجلس النيابي كافّة موالاة ومعارضة. ما يؤدّي حكماً إلى معالجة
شاملة للمليارات القديمة والجديدة ضمن المهلة الممكنة التي تحمي لبنان من أيّ هزّات لا يتحمّل تردّداتها. والتزم النائب وليد جنبلاط البقاء الى جانب التحالفات الحكوميّة الحالية، فتعهّد بالتصويت الى جانب أيّ وزير يتعرّض للمساءلة أو لطرح الثقة به أيّاً كان موقعه، فوفّر الحماية الكاملة لها.
تحت هذه السقوف المحدّدة داخليّا وإقليمياً ودوليّا، حضر النوّاب الى ساحة النجمة بالحدّ الأدنى الذي ضمن انطلاقة الجلسة واستمراريتها على مدى الأيّام الثلاثة المقرّرة لها، وطالما أنّ النصاب لم يعد مطلوبا في الجلسات التي تلت الأولى منها، غاب الوزراء ومعهم العديد من النوّاب عن الاستماع الى الخطابات. وسجّل ظهر أمس حضور رئيس الحكومة ومعه أربعة وزراء فقط في مقاعد الحكومة، وغاب ما يقارب نصف أعضاء المجلس، وبلغ الحضور حدود 67 نائباً غطَّ بعضهم في سبات عميق.
تجدر الإشارة الى أنّ المتكلّمين أوغلوا في الحديث عن الماضي، حتى البعيد منه، فأجبروا اللبنانيّين على نبش ذاكرة الحرب التي ادّعوا طيَّها، حتى أنّ النائب نوّاف الموسوي الذي استهلّ كلمته بالدعوة الى مناقشة ملفّات اليوم راح بعيداً في التاريخ إلى ما قبل حرب تموز 2006 متناسياً اللوم للّذين توغّلوا في هذا الماضي، فسبقهم الى ما بعد بعد الماضي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك