طالعنا بعض الحريصين على السّلم الأهلي ممّن يمتهنون استغباء الناس بنظريّة ترتبط بعلم النفس مفادها بأنّ الذّاكرة حالة إنتقائيّة، بمعنى أنّها تلغي ما لا تستسيغه من حوادث متراكمة فيها وتبقي، في المقابل، على ما يلائمها ويناسب ميولها. وهذا بعيد عن مفهوم الذّاكرة وطبيعة عملها، لأنّ الذّاكرة واحدة من قدرات الدماغ تخزن المعلومات وتستعيدها تبعا للحاجة إليها. وبالتالي فعدا المرض والشيخوخة، لا وجود لسبب موضوعي يؤدّي الى فقدان ما تحتوي عليه خزانة الذاكرة.
من هنا، لا يستطيع البعض الذي يستهويه استرجاع الماضي، أن يبرز جانبا ويغفل آخر. والجريمة في هذا الأسترجاع تكمن في الأنقضاض على التوافق بأنّ الطائف وضع حدّا فاصلا بين ما قبله وما بعده. لذا كان من الطبيعي، بل وجب ذلك، طيّ ما مضى والأقفال عليه بالشمع الأحمر. أمّا أن يستذكره نوّاب لم يزل حبل الخلاص السياسي والفكري مربوطا في بطونهم، فتلك بدعة أو نحر للحقيقة. ولأنّهم أرادوا هذا الأستذكار المشين، وعمّا أسموه موبقات الفريق السّيادي في زمن الحرب، فلا بدّ من فتح "الدرفة" الثانية لخزانة التاريخ علّهم يستضوون، إذا كان الضوء لم يزل ينفع في سراديب عقول معفّنة وأذهان معوّقة.
في استعراض يائس للكرامة والشجاعة، صرّح قائد "شهير" بأنّه لن يترك موقعه ولو تخلّى عنه كلّ النّاس، حتى ولو كان الثمن التضحية بالحياة. وفي اليوم التالي، عند صياح الدّيك، نسي ما وعد به، والأمر موثّق بالصورة والصوت، فكان أوّل من غادر الى أقرب سفارة.
والمبكي أنّه يقيم في كلّ سنة مهرجانا للأنتصار في ذكرى "أنكس" نكسة، ويصفّق له من عمل على تضليلهم ولمّا يزل، متناسين جريمة أعادة السوريّين الى المنطقة المسيحيّة بعدما دفع المسيحيّون لإخراجهم منها الكثير من أبنائهم، وكذلك ضريبة العودة.
وما دمنا في صدد الكرامة، فالثبات في الموقف مؤشّر أساسي في هذا المجال. وعليه لا بدّ من استحضار كتيّب "الطريق الآخر"، ملخّص إيديولوجيّة الموهوبين في التذكّر الإنتقائي، علّهم يجرون مقارنة موضوعيّة في مشروع الألتزام، وهذا مستبعد وللأسف. لكنّنا، ولضرورة البحث، نرغب في إرغامهم على إنعاش ذاكرتهم بأمر يتعلّق بالسيادة التي تراها الصفحة الثانية تشكّل مع الحرية والإستقلال، "القيم الأساسية للجمهوريّة"، ما يعني كرامتها ومقوّم وجودها.
يتضمّن الملحق رقم 1 مسألة "حزب الله"، فيعتبر الكتيّب أنّ "علاقاته مع سوريا مشكوك في حسن نواياها تجاه لبنان"، وأنّ الحزب "بعد الإنسحاب الإسرائيلي تلاشت مشروعيّة العمل المسلّح له فخلق أزمة على الصعيدين الوطني والدولي... ويهدّد الوحدة الوطنيّة"، "وليس من شأن علاقة "حزب الله" المعلنة مع إيران وتحالفه مع "الجهاد الإسلامي" و"حماس"... أن تبدّد الشكوك المحيطة بأهداف "حزب الله" الحقيقية وبالمخاطر المتّصلة باستراتيجيّته".
هل يتوافق هذا الطرح مع التغطية الإندفاعيّة التي يؤمّنها صاحب الكتيّب لسلاح "حزب الله" المشكوك بنواياه وأهدافه تجاه الوطن؟ أو أنّ هذا السّلاح بات الضامن الأقوى للوحدة الوطنيّة، ولم يعد يهدّدها بوصفه ينمّ عن احتكار للقرار الوطني من قبل طرف واحد؟
وبعد، هل أصبحت مكوّنات الحزب الأساسيّة لبنانيّة، ولم تعد عقيدته مستوردة وما عاد يلتزم بتنفيذ أوامر مرجعيّته الشرعيّة من خارج الخارطة ؟ إنّ المنقلب على القيم المكوّنة للوطن من دون حجّة، وبغضّ النّظر عن مصالحه الآنيّة الرّخيصة، لهو بحاجة الى قواعد مأمونة تنظّم تصرّفات القوّة العقليّة وتحصّنها من تأثير الوهم والرؤى الخبيثة.
في سبعينيّات القرن الماضي، حلّ فهد بلاّن ضيفا على الأغنية الشعبيّة فتأثّر بما قدّمه جزء لا يستهان به من المستمعين، وبشكل إنفعالي، حتى راح بعضهم يفضّلونه على جبل الغناء وديع الصّافي. ولكن، بعد انقضاء الهمروجة الظّرفيّة، ذهب بلاّن وبقي "جبل لبنان".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك