على باب 10 داوننغ ستريت، مقر الرئاسة رمت تيريزا ماي هراوتها وانسحبت بدمع العين. خنقتها العبرات وربما تكون، في تلك اللقطة، قد استحثت تعاطفا من جميع الذين ساندوا مسعاها للظفر بتطبيقات سلسة لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
بالطبع، ولكونها لم تكن تؤدي دورا تمثيليا عند باب مقر مجلس الوزراء البريطاني، وإنما كانت على قناعة بوجهتها؛ فإن دمعها لم يكن من نوع دموع التماسيح.
السيدة لم تدرك خطأها، ولم تصل إلى قناعة بأن أصدقاءها وغلاة مؤيديها والمحرضين على الانفصال عن أوروبا، ليسوا إلا مخطئين وأن قطاعا عريضا من البريطانيين، يراهم مجموعة من البدائيين.
هؤلاء، هم الذين جعلوا من تيريزا ماي، في تقييم النخبة السياسية البريطانية، أسوأ رئيس وزراء في تاريخ البلاد منذ عهد اللورد فريدريك نورث، رئيس الوزراء الذي شهد عصره اندلاع حرب الاستقلال الأميركية في العام 1775.
اندلعت شرارة تلك الحرب، عندما ظن نورث، وشاركه الظن الملك جورج الثالث، أن قرارات الإقصاء والإغلاق والاستكبار، التي تطال الأميركيين، بدءا من ولاية مساتشوستس، يمكن أن تؤمّن للتاج البريطاني رضوخ تلك البلاد الشاسعة، ووصل الأمر إلى حد إغلاق ميناء بوستن، إلى أن يدفع الأهالي صاغرين ثمن بضاعة فسدت وكان الموظفون البريطانيون أنفسهم، وهم الذين كانوا فوق المساءلة القضائية، سبب فساد البضاعة، وكان ذلك الاستكبار المقيت، هو ما أفسد سياسة بريطانيا حيال أميركا!
تيريزا ماي، بدورها، لم تفعل سوى القيام بمحاولة لإفساد علاقة بريطانيا بلصيقتها القارة الأوروبية. ومن المفارقات، أن ماي التي صعدت إلى سدة الحكم لكي تنفذ بريكست وجدت نفسها في النهاية معنية بتسوية تخفف من الأثر الفادح على البريطانيين من جراء ما جاءت هي من أجله.
وفي السياسة، لا تصلح شخصية واحدة، أو الشخصية نفسها، لأن تفعل الشيء الخاطئ عن قناعة، ثم تسعى هي ودون غيرها إلى الاستدراك والتراجع الذي يضاهي القناعة المضادة.
كانت مسألة مضايقة المهاجرين، إحدى سمات المشروع الذي سعت تيريزا ماي لتحقيقه، بل اتسم المشروع كله بالمنحى الاستعلائي، الذي يحدد فيه المستكبرون مجموعة القيم التي لا يقبلون سواها من أي مكوّن شعبي بريطاني ومن أي ثقافة.
أصبح البريطانيون البسطاء وغير المعنيين بأي أيديولوجيات استعلائية، يميلون أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأن تيريزا ماي ومستشاريها مسكونون بالغطرسة والرعونة، وتعمدوا تحويل نتيجة استفتاء العام 2016 إلى فرس رابحة لحزب المحافظين.
بالمحصلة، أشعلت السيدة ماي عن عمد، وبخطابها الديماغوجي، ما يشبه الحرب الثقافية التي تتهدد المناخ الاجتماعي البريطاني، وتفتح طريقا للبغضاء بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
كان واضحا استخدامها لتعبيرات المس بكرامة الأوروبيين، ولطالما تحدثت عن الاتحاد الأوروبي، باعتباره صيغة لم تحقق سوى تجسيد الإرادة السيئة، ووصل الأمر إلى درجة دفع مستشارها الوزير فيليب هاموند إلى تهديد الأوروبيين بأن بريطانيا إذا لم تحصل على ما تريد، فإن حكومتها ستعمل على تقويض اتحادهم بوسائل ضريبية وجزائية.
وفي هذا السياق، منحت ماي حقيبة الخارجية لبوريس جونسون، وهي تعلم أن أوروبا لا تتقبل الرجل بسبب أطروحاته، حتى لقيت من جونسون نفسه معارضة لها، فسحبت منه الحقيبة.
ولم تتوان عن الإدلاء بآراء تحرض على الاتحاد الأوروبي وتظن أنها بذلك تحقق مصالح حزبها، وليس تسميم البئر السياسية في القارة وفي البلاد.
ولعل هذا هو الذي جعل البريطانيين يشعرون أنهم مهددون بضياع ما اكتسبوه من حقوق وحريات وعلاقات مع شعوب القارة، علما بأن وجهة الحكومة التي تترأسها ماي، لا تنم عن وجود خطة محددة، يستشعر البريطانيون فيها مصلحة لهم.
ثم ازداد التخبط بعد أن ظهرت العقبات في وجه تنفيذ الخروج الآمن من الاتحاد، إذ فشلت ماي في التفاوض على المستويين الداخلي الحزبي والبريطاني العام، والخارجي مع 27 دولة أوروبية، بمعنى أنها لم تنجح في تنفيذ بريكست ولم تنجح في صياغة وسيلة للتراجع عنه.
كان الدمع خاتمة خطاب الوداع القصير، إذ عبرت ماي عن امتنانها الكبير والدائم لمن أتاحوا لها خدمة بلادها. وفي الواقع، هي لم تسع سوى إلى خدمة حزبها بالطريقة التي لم تخدمه فعلا.
أما بلادها، فقد تعرضت في عهدها إلى محاولة حثيثة لطمس المعارضة وتحويل بريطانيا، بالمفاعيل السياسية والاقتصادية اليومية، إلى دولة الحزب الواحد، وقد رأى جمهور عريض من البريطانيين، أن عهدها اتسم بخيانة الأمانة، علما بأن ماي عندما تولت رئاسة الوزراء، باشرت عملية ذر الرماد في العيون، فأعلنت الحرب على ما سمتها “المظالم المحترقة” وبدا أن ذلك محض تمهيد للخروج من الاتحاد الأوروبي. ثم، في السنوات الثلاث التالية، أشرفت على أكبر مشروع لإفقار الأطفال لمدة ثلاثة عقود، من خلال أزمة الإسكان، وتعميق النظام الاجتماعي لحزب المحافظين، الذي يعطي الأولوية للمال على حساب حياة الناس.
وحدثت في العام الماضي، أي في عهد ماي، فضيحة ويند رش السياسية التي طالت أشخاصا احتُجزوا عن طريق الخطأ، وحُرموا من حقوقهم القانونية، وهُددوا بالترحيل، ولم يحصلوا على الرعاية الطبية، ثم جرى ترحيلهم من بريطانيا دون أي مبرر، على الرغم من كون الكثير منهم ولدوا رعايا بريطانيين ووصلوا إلى البلاد قبل عام 1973، وخاصة من دول الكاريبي.
الآن، وبعد انسحاب تيريزا ماي من الحياة السياسية كرئيسة للوزراء، تعكس قائمة الطامحين إلى خلافتها، حقيقة العناد الكامن في بيئتها السياسية وداخل طاقمها في السفينة التي تنازلت هي شخصيا عن قيادتها.
فأول الطامحين وأوفرهم حظا هو بوريس جونسون نفسه، رئيس بلدية لندن السابق، المكروه أوروبيا، باعتباره المهندس الأول للحملة التي حققت الفوز لمشروع بريكست في استفتاء يونيو 2016. وبالطبع سيجد الرجل مساندة من القطاع الشعبي الذي تحمس للخروج من الاتحاد الأوروبي، وبخاصة القاعدة الاجتماعية لحزب المحافظين، وهو من أشد دعاة الانفصال القطعي عن أوروبا.
ويطمح إلى المنصب أيضا، وزير الخارجية الحالي جيرمي هانت، وفي حال حصوله على المنصب، سيمثل ذلك خطوة تراجع لحزب المحافظين، على اعتبار أن الرجل من حيث المبدأ كان قد أصبح مؤيدا لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، لكنه تراجع عندما اعتبر أن المفوضية الأوروبية أظهرت ما سماه نوعا من التبجح في المفاوضات.
هناك آخرون يطمحون إلى المنصب، لكن الخيار عندما يرسو على أي منهم، سيكشف عن وجهة حزب المحافظين، وما إذا كان قد تأثر بالشجن في خطاب ماي الوداعي واعتزم التصلب، أم أحس هذا الحزب بأن الأمور تجري لغير صالحه فيغير وجهته.
TWEET YOUR COMMENT