بين دبلوماسية الأقنعة ومحور السلاح
05 Jun 202509:22 AM
بين دبلوماسية الأقنعة ومحور السلاح

 

ريمون مارون - مركز الشرق الأوسط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية  MEIRSS 


في زمن التحولات الحاسمة، لم تعد الأزمة في لبنان مجرّد مواجهة سياسية أو اقتصادية، بل صراع على المعنى ذاته للدولة. فإمّا أن تكون الدولة ذات قرار وسلطة وسلاح، أو تصبح شكلاً بلا مضمون، تُدار من خلف الستار وتُختزل بسياسات الخارج وتحالفات الداخل.
زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الأخيرة إلى بيروت لم تكن مجرّد مناسبة بروتوكولية، بل محطة كاشفة لحقيقة لطالما أُخفيت خلف لغة المجاملة: إيران لا تزال تمارس نفوذها في لبنان عبر خطاب مزدوج، تُزيّنه الدبلوماسية وتُحرّكه الحسابات العقائدية. ففي الوقت الذي يؤكد فيه عراقجي احترام بلاده لسيادة لبنان، يتوجه من على ضريح الأمين العام السابق لـ "حزب الله" ليؤكد أن الدماء "ضمانة للنصر"، وأن "المقاومة" باقية، كأنّ القرار اللبناني لا يزال مُعلّقاً على حبال شعارات خارج مؤسسات الدولة.

- السيادة ليست وجهة نظر
وسط هذه المسرحية المتكررة من التصريحات المتناقضة، برز موقف وزير الخارجية اللبناني يوسف رجّي الواضح والمباشر . إذ شدد أمام نظيره الإيراني على أن إعادة إعمار لبنان والدعم الدولي لا يمكن أن يتمّا إلا من خلال الدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية، وان لا شرعية لأي سلاح خارج عن مؤسسات الدولة.
هذا الموقف يتجاوز حدوده الدبلوماسية. إنه تذكير عميق بأن السيادة ليست مفهومًا مرنًا يُكيّف حسب مصالح الخارج أو توازنات الداخل. إنها جوهر وجود الدولة نفسها، شرطها الأول، وعنوان قدرتها على تمثيل شعبها لا على التفاوض باسمه من موقع الضعف.
إن أي تهاون في هذا المبدأ يقود إلى تهديد فعلي لهوية الدولة، إذ كيف يمكن الحديث عن استقلال وحرية وكرامة وطنية فيما قرار الحرب والسلم والسلاح خارج أروقة المؤسسات الشرعية؟

- ازدواجية الخطاب الإيراني: نفي السيادة بلغة الاحترام
إيران، كما بات واضحًا، لا تتدخل بشكل مباشر في تفاصيل القرار اللبناني، لكنها تفعل ذلك عبر وكلائها. هي لا تمارس السيطرة بالتصريح، بل بالترك والتلميح، فتُبقي لبنان معلّقًا في فضاء رمادي: ليس مستقلًا فعلاً، ولا خاضعًا رسميًا.

إن القول إن "قرار نزع السلاح شأن لبناني داخلي" لا يعفي إيران من مسؤوليتها المعنوية والأخلاقية، ما دامت هي الراعية السياسية والعقائدية لحزبٍ يملك  السلاح . فهل تُعقل سيادة في ظل معادلة كهذه؟ وهل يمكن لبلد أن ينهض اقتصاديًا واجتماعيًا وهو مُعلّق بين صورتين متناقضتين لذاته؟
- السيادة كلّ لا يتجزّأ
لا مجال لأنصاف حلول حين يتعلّق الأمر بالسيادة. إما أن تكون، أو لا تكون.
الدولة التي ترضى بأن تتقاسم أدواتها مع غيرها، تفقد وحدتها. الدولة التي تصمت عن ازدواجية السلطة، تُفكّك ذاتها من الداخل. لا أمن، لا قانون، لا إصلاح، لا إعادة إعمار، بلا وضوح في المرجعية السياسية والعسكرية والشرعية.
إن لبنان يقف اليوم أمام لحظة اختبار جديدة: هل يملك شجاعة إعلان استقلاله الفعلي من كل محور خارجي؟ هل يستطيع أن يُعيد صياغة حضوره كدولة كاملة السيادة؟ أم سيستمر في الانزلاق داخل حفرة ازدواجية قاتلة تقتل الروح قبل أن تهدم البناء؟
- المطلوب: موقف لا لبس فيه
لن تنفع المجاملات، ولا المواءمات، ولا الإشارات الضبابية.
المطلوب، أكثر من أي وقت مضى، موقف واضح وصلب من الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها، وخاصة وزارة الخارجية، يُعيد ترسيخ المعنى العميق للسيادة بوصفها المبدأ المؤسس للكرامة الوطنية. فالدولة التي تستجدي المساعدة من الخارج، لا يمكن أن تظل رهينة شروط الداخل المسلح. والدولة التي تريد مستقبلًا، عليها أولاً أن تستعيد قرارها.